بالإضافة إلى الحرب التي تدور رحاها في غزة، بكل تداعياتها الكارثية ونتائجها المؤلمة.. ثمة جبهات، حامية الوطيس، للحرب تدور في مستويات أخرى وطرائق عديدة، وليس المقصود بذلك الجبهات السياسية والدبلوماسية بمنصاتها المعلنة أو كواليسها المعتمة.. من دون أن يعني ذلك أنها ليست جزءاً من مشهد الحرب الكبير، والذي يثير، بقدر ما تثير آلة الحرب الفجة، الكثير من التساؤلات ذات الصيغة السياسية، أو الثقافية، أو الأخلاقية..جبهات الحرب الأخرى تدور في فضاءات الشبكة الالكترونية والمعلوماتية بالتوازي مع الحرب الواقعة على أرض غزة، جبهات لا يمكن وصفها بأي حال أنها جبهات إفتراضية.. فالعالم الافتراضي الذي تقترحه الشبكة العنكبونية عموماً، تحول إلى عالم شديد الصلابة وواضح القوام بالنسبة لمتصفحي الانترنت وهواة المنتديات الالكترونية.ويستطيع متصفحو الانترنت أن يلاحظوا إلى كثرة المنتديات و«الغروبات» والخلايا والنشاطات الفردية أو الجماعية التي نشأت مع بداية الحرب والتي تتابع أحداثها ومجرياتها لحظة بلحظة.. بشكل يمكن القول معه أنه ما من أحد يستطيع أن يكون خارج هذه البوتقة الجحيمية. وما يسجل للشباب العربي حضوره الكثيف على الشبكة المعلوماتية، وهو الذي وصف في مناسبات كثيرة، بأنه من مدمني الانترنت، وبأنه أعرض عن كثير من القضايا الوطنية والقومية. أما النقطة الأكثر سخونة، والأكثر تناقضاً.. فتكمن في الحقيقة الثابتة التي يمكن ملاحظتها وتلخيصها بأن التوجه العريض في ثقافتنا وسياساتنا كان (وما زال) يعمل ضد «العولمة» ولكنه يدعو الآن (في لحظة الحرب) إلى عولمة الحرب على غزة تحت عناوين عديدة أولها كسب التأييد العالمي. ويبدو أن هذا الأمر حاصل فعلاً، والدليل على ذلك انتشار المظاهرات الحاشدة في أماكن كثيرة من العالم، وليس السبب وراء ذلك أداءنا الدبلوماسي أو السياسي، أو الثقافي (الهزيل والبائس حتى الآن)، ولا حتى حضورنا المشكور على شبكة الانترنت، بل السبب وهذه مفارقة أخرى، هو فجاجة العدو، وبربريته!..وبعيداً عن جلد الذات، لا بد من الاعتراف بتأثيرات الحرب على شبكة المعلومات والاتصالات، وفعاليتها وجدواها، وهي حرب يشترك فيها الإسرائيليون في الوقت ذاته، والمقاومون أيضاً. فمنذ بداية الحرب استطاع المقاومون «الانترنتيون» تدمير آلاف المواقع الإلكترونية الصهونية، بما فيها مواقع الوزارات والمؤسسات المصرفية والخدماتية الإسرائيلية.كما استطاع المقاومون في هذا المجال اختراق ترددات إذاعة الجيش الإسرائيلي وقاموا ببث البيانات التي تحض على المقاومة والصمود في وجه العدوان الأثيم، ورفع الروح المعنوية عند الشعب الفلسطيني.ولم يكن الإسرائيليون بعيدين عن استثمار الشبكة المعلوماتية، فقد قاموا بالاستفادة من إمكانات موقع الفيديو التشاركي «يوتيوب» واقتتحوا قناة لبث أفلام وصور من الحرب على غزة وتقديمها للعالم على أنها حرب تدور ضد «الإرهابيين» والمهربين.في مستوى آخر، يمكن تسجيل نقطة إضافية لصالح الإعلام العربي، وتحديداً لـ «رامتان» ذوكالة الأنباء الفلسطينية، التي أنهت الاحتكار الإعلامي العالمي، لدرجة أن معظم الفضائيات والتلفزات في العالم تنقل مباشرة عن «رامتان». وفي هذا السياق من لا بد من التذكير أننا خلال عقود طويلة مؤلمة كنا نلقي باللوم على الكثير من المؤسسات الإعلامية في العالم، متهمين إياها بالانحياز الكامل لإسرائيل وباصطفافها السياسي المعلن لها. حدث ذلك قبل (وخلال) أن تنشأ مؤسسات إعلامية عربية عملاقة (الجزيرة والعربية، مثالان..) لا تغيب عنها سياسيات الاصطفاف أيضاً.إذن، لدينا الآن وسائل كثيرة لإدارة الصراع، في الحرب والسلام. وما ينقصنا هو آليات التفكير الملائمة.. وحتى الآن يبدو أننا بحاجة إلى إعادة النظر في الكثير منها. الغريب والمؤلم أن ميكانزمات التفكير تلك، بكل عقمها وعطالتها، ما زالت قائمة ومستمرة، لدرجة أن الحرب نفسها غير قادرة على زعزعتها، أو زحزحتها على أقل تفدير!!..
Leave a Reply