عباس الحاج أحمد
في العصر الذي نتحدث فيه عن كوكب اليابان، وننظر من خلال تسارع التطور فيه على طرقات هلسنكي وشوارع نيويورك وأنفاق مونتريال وجسور لندن، تبرز بعض المميزات العربية–الشرقية في داخل عجلة الاستهلاك العالمي بجلسات الحبايب وسهرات الأقارب.
في العلوم الإنسانية، يبدأ تعريف الإنسان بأنه «كائن اجتماعي». كائن قفز بتطوره فوق الصفات الحيوانية ليصنع الأدب ويؤلف الأغاني ويعزف الألحان ويتحرك بالرقص ويتداوى بالمسرح ويعبر بالقلم والكلمة.
تميز البشري بتاريخه الأنتروبولوجي بصلات الوصل التي تعلو فوق التعريف العلمي للمادة والتفسير البيولوجي لهرمونات التواصل. فكان، لدافينشي لوحته ولبيتهوفن سيمفونيته ولشكسبير مسرحه ولنجيب محفوظ أزقته. كان لنا –كبشر– كل الأساليب الإبداعية المميزة التي تدور حول مركز له الجاذبية الأقوى، «الآخر». مركز الدوران، كان التواصل واللقاء وإثبات الذات والتسكع والاكتشاف والسياحة والحب والعطاء المتبادل مع الآخر، بصفته، حبيباً أو صديقاً أو أخاً أو قريباً.
وفي الديار الأميركية، بقلب ولاية ميشيغن حيث رصدت عجلة الاقتصاد وتابعت الأنظمة والقوانين التي تعلو بأميركا فوق باقي الدول. تبرز عادة عربية–شرقية مميزة. عادة تحمل معها حس التواصل المفقود بزمن الفيسبوك والهمبرغر والموت السريع، حيث تتجمع العائلات في غرف البيوت الخشبية ويتسمر الأصدقاء مع بعضهم البعض تحت سقف «الكاراج». لعب الورق، أكل الحلويات، عزف العود، التحدث عن أهمية اللغة العربية، نقاشات أزمة الحكومة اللبنانية، ذكريات بغداد وصنعاء ودمشق، الالتفاف حول عائلة فقدت عزيزاً حيث يتذكر عندها الحاضرون أهمية لحظة الحياة قبل الممات.
«الزهور التي ستشتريها عند زيارتك لقبري لا داعي لها، ولا داعي لأن تبكي فوق رأسي، اشترِ «ساندويش» واعطه لحارس المقبرة». هذا ما أوصى به الكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي. «ساندويش» تسد جوع الحارس، لا زهور تذبل كما يذبل جسم الإنسان في التراب، أو دموع بلا فائدة. الفائدة تقع في صنع لحظات حياة ممكنة أمام غدر الموت.
نعيش اليوم مع اخبار مستمرة عن أحداث موت مفاجىء. حادث سير، قتل عبثي أو مرض. يسرق منا الموت أعز الناس. ولكننا بفعل أيدينا نسرق من أنفسنا الكثير. فبوجه كل المرارة التي ترافقنا نأتي بالورود إلى المقبرة لنجمل لحظة الوداع، بينما باستطاعتنا تجميل لحظة اللقاء، أي لقاء، مثلما يفعل المغتربون في جلساتهم الليلية التي تحارب نظام الإنغماس بالعمل والروتين ونسيان قيمة التواصل المباشر، تلك القيمة الأهم في تاريخنا البشري.
Leave a Reply