بسبب ثورة الاتصالات التي كان من نتائجها انتشار القنوات الفضائية على ذلك النحو الكبير والشائع، بما في ذلك اعتمادها سياسات البث على مدى الأربع والعشرين ساعة، وبدلاً من شيوع تعابير من قبيل «جمهورية التلفزيون» التي تروّج لها الدراسات الفلسفية والنظريات النقدية، سينتصر إحساس أوليّ يفضل أن يصف التلفزيون بأنه «الجهاز الذي يلتهم كل شيء»!!..
ويستطيع أي مُشاهد أن يتأكد من صحة تلك المقولة البسيطة، فالقنوات الفضائية تبث أي شيء يتعلق بنشاطات البشر واهتماماتهم: من السياسة إلى المطبخ، مروراً بالاقتصاد والموضة، من دون أن ينتهي ذلك بالفن والدين ونشرة الطقس. كل شيء قابل للعرض في صندوق الفرجة وبالسرعة القصوى، لدرجة يشعر معها المرء أن تصنيع المواد التلفزيونية يتم بلا «فلاتر» في أحيان كثيرة، من دون إغفال قوانين الرقابة فيما يتعلق بالتابوهات المعروفة: الدينية والجنسية والسياسية..
غثاثات كثيرة، مسجلة وعلى الهواء مباشرة، لا يستطيع المُشاهد ابتلاعها..بل غالباً ما تسبب التقيؤ. وفي غمرة انشغال القائمين على تلك الفضائيات، قلما يدركون أن الإنسان كائن لا يبتلع، ولا يهضم، كل شيء، فيكون الريموت كونترول سيد الموقف!..
ولكن ماذا عن جمهورية التلفزيون؟!..
كان من المنتظر أن ينبثق عن الشاشة الفضية ما يسميه النقاد «تلفزيون الواقع» وكان من المتوقع لتلفزيون الواقع هذا.. أن يحجز مساحة كبيرة في البث التلفزيوني، حيث يمكن المشاهدة إلى بشر حقيقيين، من لحم ودم، وهم يزاولون أعمالهم وشؤون حياتهم اليومية، في البيت والشارع والمقهى وأماكن العمل، وأن يتعرف الجمهور على اهتماماتهم ومشاكلهم وطرائق عيشهم وتفكيرهم، وأساليب فهمهم للواقع والمحيط والعالم..
فشل «تلفزيون الواقع» العربي بجدارة، منذ خطواته الأولى، إذ تبيّن أن «جماهيرنا الغفيرة من المحيط إلى الخليج» مصابة بفوبيا الكاميرا، والتجارب والبرامج التلفزيونية أثبتت أن شعوبنا بالكامل، وتحت إضاءات الكاميرا، ليست أكثر من حلزونات مصابة بالتعرق والتلعثم.
شعوب غير معتادة على الكاميرات والمنصات والفلاشات التي حجزها المسؤولون والقادون التاريخيون منذ وقت طويل. وحتى الآن.. ما يزال ظهور صورة شخص «عادي» في جريدة يشكل حدثاً في حياته ومحيطه الاحتماعي.
لم ينجح «تلفزيون الواقع» العربي في حجز مكان ملائم على الشاشة، وبدلاً من مساهمته في إنتاج «ديمقراطيات من النوع الصغير» التي ترفد الديمقراطية الكبيرة، انسحب الجمهور، وأُهملت الفكرة. ولم يتبلور، أو يتفشّى، مفهموم «جمهورية التلفزيون» في جمهورياتنا العربية.
والجمهوريات تقوم أساساً، ومن دون فذلكة أو إطناب، على فكرة التعايش السلمي بين الأفراد والجماعات، ملتزمين بالقوانين (أو العقود المدنية)، متمتعين بحقوقهم، وأقلها حريات التعبير والاعتقاد والانتماء السياسي. والواقع يقول إن نضالاتنا الوطنية وعلى مدى عقود من الزمن فشلت في تحقيق أبسط حقوق المواطن العربي (بل نجحت في سلبها إياها)، ناهيك عن تطلعاته الوطنية والقومية..
إن مفاهيم كـ«الجمهورية» و«الديمقراطية» ليست مفاهيم راسخة، أو فاعلة، أو حتى.. حاضرة، في بنياننا الثقافي والاجتماعي. ومع ذلك.. ثمة على الدوام مهرطقون ومشعوذون وسحرة لا تنقصهم الأرانب البيضاء، يحاولون بلا كلل أن يثبتوا لنا، وللعالم أجمع، أننا نعيش في جمهوريات ونمارس ديمقراطيات..
وأيضاً، فإن مفاهيم كـ«تلفزيون الواقع» المتصل مباشرة بفكرة الديمقراطية، و«جمهورية التلفزيون» المتصل مباشرة بفكرة الديمقراطية، ليست أكثر من تعابير يقتضيها الثراء اللغوي، أو الاقتراض الثقافي عبر الترجمة الحرفية، . ومع ذلك.. ثمة على الدوام مهرطقون ومشعوذون وسحرة لا تنقصهم الأرانب البيضاء، يحاولون بلا كلل أن يثبتوا لنا، وللعالم أجمع، أننا نعيش في جمهوريات تلفزيونية ونمارس ديمقراطيات درامية.
Leave a Reply