خطابه عن فلسطين والمقاومة أزعج الحريري لأنه ضد «لبنان أولاً»
«نقده الذاتي» لن يفتح له الطريق إلى الضاحية الجنوبية ودمشق
ابلغ ما كتبه الاديب الراحل سعيد تقي الدين عن المرحوم كمال جنبلاط عندما وصفه بـ«قضيب الزعرور»، الموصوف بأنه كثير العقد، كما ان الرئيس فؤاد شهاب كان عندما يعلن جنبلاط عن موقف تصعيدي، يسأله ماذا تريد من خدمات، فيهدأ ليفك مطالبه عن ضرورة مشاركة لبنان في دول عدم الانحياز مثلاً.
وهذا الأداء الجنبلاطي في السياسة موروث داخل العائلة الإقطاعية الجنبلاطية، التي قدمت الى الشوف من عائلة كردية من حلب وتكنت بآل «جنبولاد»، وقد وصلت الزعامة الى وليد جنبلاط الابن الوحيد لكمال الذي لم يكن خياره العمل السياسي، بل الشأن الفلسفي واللاهوتي، متأثراً بالآباء اليسوعيين الذين تتلمذ على أيديهم في مدرسة عينطورة ثم الجامعة اليسوعية اضافة الى تأثره بفلاسفة الهند.
فوليد جنبلاط الوريث السياسي لأبيه يشبهه في ممارساته السياسية، فهو مثله، متقلب الموقف متحول التحالفات ومتطلب في السلطة، لذلك باتت المدرسة الجنبلاطية في السياسة موصوفة بالزئبقية وعدم الثبات ليس على المواقف، بل على المبادئ ايضاً، ويجري تبريرها من قبل بعض المقربين من جنبلاط، انه «براغماتي» ومن المدرسة الواقعية في السياسة، وانه يمتاز في اسلوب مختلف عن الآخرين حيث الرجل اسلوب، لكن عندما يصل هذا النموذج الى حد اعلان مواقف واتخاذ قرارات، كادت ان تتسبب بحرب أهلية، مثل إصراره على ان تتخذ الحكومة قراراً بوقف شبكة اتصالات المقاومة، فان مثل هذا التصرف يخرج عن كونه اسلوباً في السياسة، انما هو انخراط في مشروع سياسي، فكيف اذا كان مشروعاً اميركياً! وكان جنبلاط نفسه اعترف انه هو فيه ومنه، وذهب الى واشنطن وقابل كبار المسؤولين وطالبهم بالعمل على إسقاط النظام في سوريا، فجوبه بالرفض، لان المطلوب تغيير سلوكه لا تبديله، وقد فهم الرسالة الاميركية، التي تلقاها بعد شهرين من العدوان الاسرائيلي على لبنان صيف 2006، عندما تبلغ من وزيرة الخارجية الاميركية كونداليزا رايس ان الرئيس بشار الاسد ثابت في موقعه.
منذ ذلك التاريخ في تشرين الاول 2006 وجنبلاط لا يلتقط ما تريده الادارة الاميركية، وهو قليل المعلومات عن خططها لانها تتبدل، بفعل تعثر المشروع الاميركي للمنطقة الذي راهن عليه رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وحلفاؤه، بان التغيير سيصيب كل المنطقة، واول من سيطالهم هو الحكم في سوريا، وبنوا سياستهم على هذه المقولة، التي شجعهم عبد الحليم خدام نائب الرئيس السوري السابق على الاعتماد عليها، وان المسألة مسألة وقت، وهناك قوى معارضة ناهضة في سوريا، تعمل على إطلاق «ربيع سوريا» على غرار «ربيع لبنان»، وان حركة مثقفين بدأت تطرح موضوع الديمقراطية والحريات ولا بد من الاستفادة منها، ومد يد المساعدة لها، وفتح بوابات الاعلام لها، وهذا ما دفع بجنبلاط الى الحديث الدائم عن هؤلاء والاشادة بهم ودعم حركتهم.
لكن الرهان الجنبلاطي فشل مع التحول الاميركي نحو المطالبة لفتح الحوار مع سوريا وايران كما جاء في تقرير لجنة بايكر-هاميلتون، كما خسرت قوى 14 شباط معركة المحكمة الدولية بشأن اغتيال الرئيس رفيق الحريري، لانها لن تنعقد قبل صدور القرار الاتهامي الذي لم تتوفر عناصره بعد، وقد سقط مع اكتشاف امر الشهود الزور ومن ابرزهم محمد زهير الصديق الذي تم تهريبه من فرنسا الى الامارات العربية المتحدة.
لقد شعر جنبلاط انه فقد اوراقاً كان يعتمد عليها منها المشروع الاميركي في المنطقة الذي تعثر وفشل، وتوظيف المحكمة الدولية سياسياً، وخروج الرئيس الفرنسي جاك شيراك من الاليزيه، ومجيء رئيس جديد هو نيكولا ساركوزي، الذي قرر أن ينسف كل ماضي السياسة الفرنسية، وان يبعد الشخصانية عن العلاقات الدولية كما فعل شيراك مع لبنان حيث كانت العلاقة بالمسؤولين اللبنانيين تمر بآل الحريري (رفيق الحريري)، كما أثبتت السعودية انها غير فاعلة عربياً، ولم يتمكن المحور الذي اقامته بالتعاون مع اميركا مما سُمّي «الدول العربية المعتدلة» من ان يحاصر سوريا، التي نجحت في عقد القمة العربية فيها، مما اعطاها حجماً عربياً وأعادها نقطة جذب اقليمية ودولية.
هذه التحولات اربكت جنبلاط الذي ذهب بعيداً في رفع العداء للمقاومة والمطالبة بنزع سلاحها، حيث كشفت تطورات الاحداث التي حصلت في ايار الماضي من خلال تحرك المعارضة والمقاومة للدفاع عن سلاح المقاومة في وجه سلاح الفتنة، ان قوى 14 شباط متروكة عربياً ودولياً، وهذا ما عبّر عنه جنبلاط في مجالسه واعترف ان تحرك «البارجة كول» قرابة الشواطئ اللبنانية، كان عرضاً ضاراً وغير مفيد للفريق الحاكم، الذي كان ينتظر دخولا عسكريا اميركيا مباشرا، في حال تحركت المعارضة عسكرياً، وأسقطت بيروت ولبنان في يدها، واعادت النفوذ السوري والايراني، فتبين لزعيم المختارة، ان تحرك المعارضة جاء في الوقت الذي كانت تدور المفاوضات غير المباشرة بين سوريا واسرائيل عبر تركيا، وان حواراً يجري بالواسطة مع ايران عبر الاتحاد الاوروبي حول الملف النووي، واقامة علاقات شبه دبلوماسية اضافة الى انكفاء الدور السعودي بعد إخفاق قيادة المملكة وحلفائها في منع عقد القمة العربية في دمشق، التي ساهمت قطر بقوة في عقدها، فاعطتها سوريا ورقة مرور لترعى حلاً للأزمة اللبنانية، جاء إثر احداث ايار، لتستعجل عقد مؤتمر للحوار في الدوحة والوصول الى اتفاق، فتح ابواب مجلس النواب لانتخاب رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان، وازالة اعتصام المعارضة الذي أمن لها الثلث الضامن في حكومة الوحدة الوطنية.
هذه التطورات دفعت بجنبلاط الى القيام بعملية «نقد ذاتي»، واستذكر انه اعلن على طاولة التشاور في مجلس النواب، ان مشروعه فشل، كما بات على يقين ان المعارضة باتت الاقوى عسكرياً وشعبياً، ولا يمكن القفز فوق هذه الوقائع، فاعلن استسلامه وتسليم مكاتبه الحزبية، ورفض اي مغامرة عسكرية كان متطرفون من حزبه وبعض انصاره يريدون أخذه إليها في بيروت والجبل، حيث اظهرت الوقائع ان مروان حمادة خدعه في موضوع شبكة اتصالات المقاومة، وان الامر جاء من واشنطن لتحريك ملفها، فوقع في الفخ، وقد اباح بذلك للرئيس نبيه بري وأكد له، انه لن يوزر حمادة ولن يكون على لائحته في الانتخابات النيابية، ولم يعد باستطاعته الرهان اكثر على اميركيين، وهو سيعود الى إعادة تموضعه السياسي، وسيبتعد عن «صقور الموالاة» ومن لهم ارتباطات مع الادارة الاميركية، وبدأ يوجه انتقادات لاذعة في مجالسه لسمير جعجع ويطلق عليه لقب «جعجع خليل جعجع»، وعلى وزن «جبران خليل جبران»، وانه لن يتحالف مع «القوات اللبنانية» في الجبل، حيث استعاد في أثناء كلمته في احتفال عبيه بتحرير سمير القنطار من الأسر، معارك الجبل مستذكراً النضال المشترك مع الفلسطينيين وأعاد التأكيد على ضرورة عدم نسيان النضال الفلسطيني وضرورة دعمه حتى والانخراط فيه. وكان موقفاً لافتاً له وبعيداً عن شعار السياديين الجدد، حول «لبنان اولاً»، وتلقى انتقادات من حلفائه في 41 شباط، ليس من جعجع فقط بل من سعد الحريري الذي لم يستسغ عودة جنبلاط الى لغة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، التي يعتبرها «استقلاليو البريستول وقريطم» لغة خشبية. وهو نعت يطلقه يساريون قدامى لتبرير ارتمائهم في احضان المشروع الاميركي، والقبول باسرائيل التي لم تعد عدواً بالنسبة اليهم.
وما زاد من ارتباك جنبلاط، وضياع بوصلته السياسية، الانفتاح الفرنسي على سوريا وتغيير السلوك اتجاهها، حيث قرر الرئيس نيكولا ساركوزي فك الحظر عنها، بعد ان تأكد انها مفتاح الحل في المنطقة وان لفرنسا مصالح معها، ولا بد من ان تكون لها علاقات ايجابية معها، عجلت بها التطورات على الساحة اللبنانية، وانتخاب رئيس للجمهورية اعتبره ساركوزي انه منه يمكن الولوج الى فتح صفحة جديدة، فكانت زيارة الرئيس الاسد الى فرنسا ومشاركته في احتفالات ثورتها ثم في قمة «الاتحاد من اجل المتوسط»، وقد تقززت عينا جنبلاط وهو يرى الاسد على منصة الاحتفالات في فرنسا وفي قمة المتوسط، وفي القمة الرباعية التي جمعته الى ساركوزي وامير قطر والرئيس سليمان.
لم يعد جنبلاط قادر على قراءة التحولات العربية والدولية، وهو الذي يقال عنه انه يقرأ، وله «انتنات» تلتقط التغييرات، لأن الفترة التي كان فيها يزوّد بالمعلومات زمن الاتحاد السوفياتي وسفيره في لبنان، الى المخابرات السورية ومن كانوا في موقع القرار السوري من المسؤولين، قد ولّى، وان واشنطن ترى مصالحها، وباريس تفتش عن استثمارات لشركاتها، فعندما توترت العلاقات بين سوريا وفرنسا، فعلى قاعدة ان الرئيس شيراك كان يريد ان تحظى بلاده بالتنقيب عن النفط عبر شركة «توتال» وحصول شركة «فرانس تيليكوم» على استثمارات في الهاتف الخلوي، ولما لم يحصل ذلك، استصدر الرئيس الفرنسي مع نظيره الاميركي جورج بوش القرار 9551 الذي يطالب بسحب القوات السورية من لبنان، ونزع سلاح المقاومة، ورفض التمديد للرئيس اميل لحود.
ومع الرئيس ساركوزي تعززت العلاقات وجرى التوقيع على استثمارات لشركتي «توتال» و«ايرباص» وغيرهما، وهذه اشارات الى ان حسابات الدول تقف عند مصالحها، وليس لهذه الدول مصالح مع جنبلاط وحلفائه، سوى ما طلبته منهم الادارة الاميركية وهو العمل على نزع سلاح المقاومة، وعندما فشلوا ولم يتمكنوا من الحكم وخسروا الارض عسكرياً وشعبياً امام المعارضة، لم تعد تهتم بهم، لا بل نبذتهم لانهم لم يكونوا على مستوى ما قدموا انفسهم لتنفيذه.
فالضياع الجنبلاطي بدأ يؤثر على تحالفاته، فهو بات غير موثوق من حلفائه في 41 شباط، وبدأت عمليات التشكيك المتبادلة بينهم، وقد يخسرهم ويخسر نفسه ، وهو لن يربح خصومه ، كما ان الطرقات ما زالت مقفلة ولن تفتح في المدى المنظور امامه باتجاه الضاحية الجنوبية للقاء السيد حسن نصرالله او دمشق لمقابلة قيادتها ، وقد تم ابلاغه من حزب الله ان لا عودة الى التحالف الرباعي، ولا تخلي عن حلفائه وان الارض السورية لن تستقبل من انقلب على تحالفاته وخان الوفاء لمن وقفت سوريا معه ومع اهل الجبل خصوصاً ،ولبنان عموماً في ايام الشدة واثناء الغزو الصهيوني للبنان ومحاصرة الجبل، حيث ذكره المناضل سمير القنطار في اول اطلالة له في عبيه، بان لا ينسى سوريا وما قدمته لأهل الجبل.
Leave a Reply