اجتاز خارطة طريق لتبديل موقعه السياٍسي واجراء المصالحات والاعتراف بالإساءة لسوريا
بيروت –
كان متوقعاً، ووفق خارطة الطريق التي رسمت له، للوصول الى دمشق، بعد انقطاع عنها دام حوالي الست سنوات، اختتم النائب وليد جنبلاط، بنود ما اتفق عليه معه، بإطلالة تلفزيونية، عبر محطة “الجزيرة” الفضائية مع الزميل غسان بن جدو، ليقول العبارة التي كانت متوقعة منه، انه في “ساعة تخلي”، توجه بكلام غير لائق الى الرئيس السوري بشار الأسد، كما كان أعلن قبل ذلك انه أساء الى الشعب السوري، وتذكر تضحيات سوريا وجيشها وشعبها في مساعدة لبنان ومقاومته، واعتبرها الحاضن للدروز في المحن التي كانت تضرب الطائفة العربية الإسلامية، التي يجمعها مع دروز سوريا وفلسطين جغرافيةً طبيعية وأواصر العلاقة القومية والأخوية.
اطل جنبلاط في توقيت كان مدروساً، الاول هو ذكرى انطلاقة قوى “14 آذار” الخامسة، التي أخرج نفسه وحزبه منها، وهو الذي شكّل رأس حربة في اطلاقها بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والدور الذي لعبه في تحريكها في الشارع، والثاني هي مناسبة اغتيال والده كمال جنبلاط في 16 آذار، حيث قال كلاماً على قبره بعد خروج القوات السورية، بأنه سامح من قتله ولكنه لن ينسى، وفتح ملف مقتله عبر اتهام المخابرات السورية به، وتوجه الى والده قائلاً: لقد كنت جباناً أمام دمك، متوعداً بالثأر من النظام السوري الذي قتله حيث نبش أوراقا في ملف، أشار الى انه يحتوي تفاصيل الجريمة، وقام بتسريب معلومات عنها، ونظم ندوات سياسية وحملات إعلامية حولها.
فمن المناسبتين، خرج رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، إذ هو أعلن في 2 آب 2009، انه بات خارج قوى 14 آذار، ليس تنظيمياً كما فعل الرئيس أمين الجميل وحزب الكتائب، بل سياسياً، واقترب من سوريا التي اعتبرها العمق القومي، وانه يخطئ من يظن ويعمل ضد الجغرافيا السياسية، بل ذهب الى الاعتراف بان رهانه السياسي فشل على المشروع الاميركي باحتلال سوريا كما اشتهى وطالب الإدارة الأميركية، بتغيير نظامها، كما انه اقر بالمقاومة وحقها بالدفاع عن لبنان، وهي سجلت انتصارات، ولا مانع من ان تمتلك الأسلحة الرادعة ضد العدو الاسرائيلي، وان يتم التفكير كيف يمكن ان يستفاد من قوتها بالتعاون والتنسيق مع الجيش اللبناني.
كان هذا الخروج السياسي من مجموعة سياسية ترفع الخصومة لسوريا، وتؤيد عدم وجود المقاومة وبنزع سلاحها، انتقالاً لجنبلاط من منظومة “14 آذار”، الى الوسطية كما قال هو، وكان هذا الانتقال من اجل حفظ ماء الوجه أمام حلفائه السابقين ولإقناع محازبيه وأنصاره، وبعض من يؤيده في طائفته، بالخطوة التي أقدم عليها، إذ احدث موقفه وتحول موقعه صدمة في صفوف الحزب التقدمي الاشتراكي للوهلة الأولى، كما لدى “الجنبلاطيين” مدنيين ورجال دين، كما انه هزّ التحالفات السياسية، وقد اضطر ان يخوض معركة سياسية وإعلامية، لتوضيح الانقلاب الذي قام به، بالرغم من اعتياد المواطنين على تقلباته، لكن ما حصل، انه اسقط مشروعاً سياسياً للبنان، كان سيمتد منه الى المنطقة، بعد ان كان هو فيه، وراهن على ان الرئيس الاميركي السابق جورج بوش سيعمم الديمقراطية، ويزيل الأنظمة الدكتاتورية، وقد اقنعه ما جرى في العراق وسقوط نظام صدام حسين واجتثاث حزب البعث العربي الاشتراكي، فتراءى له، ان الدور آتٍ لا ريب على سوريا ونظامها، فتقرب من المعارضة فيها، لكن حساباته أخطأت، وصمدت سوريا، وتمكن رئيسها من ان يواجه المشروع الاميركي الذي كان عنوانه هو ضرب المقاومة، وان تتعاون سوريا في هذا الملف فتسلم، لكن قيادتها رفضت الشروط والاملاءات الأميركية، وجاء انتصار المقاومة على العدو الاسرائيلي في حربه على لبنان صيف 2006، ليعزز دورها، ويقوي موقع سوريا الممانع في وجه المشروع الاميركي، الذي كان بدأ ينهار في العراق، ورفضت سوريا تقديم العون له، لأنها اختارت جبهة المقاومة والممانعة، وعززت تحالفها مع إيران، بعد ان كانت الإغراءات تأتيها من أميركا وعربها لفك ارتباطها بالجمهورية الإسلامية.
كل هذه التطورات قرأها جنبلاط الذي يعرف عنه انه يقرأ التحولات، ويسير مع الرياح، قد يصيب وقد يخطئ، وهو في السنوات الخمس الماضية اخطأ عندما قال: ان الرياح الدولية تعمل لصالحنا، وإننا لم نعد وحدنا في العالم، وما علينا إلا الصمود، وقد سمح بالتلويح بالعلم الفرنسي في قصر المختارة، متذكراً دور جدته نظيرة زين الدين جنبلاط، التي كانت على تحالف مع الفرنسيين أثناء انتدابهم للبنان من العشرينات الى منتصف أربعينات القرن الماضي لكن والده انتفض على هذه السياسية.
قرر جنبلاط تائباً ان يعود الى قواعده، وقد استذكر ان والده لم يحظ بالدور الوطني في لبنان، وان يكون صاحب الاسم العربي، والعلاقات الدولية، إلا لانه كان في صف القوى الوطنية التقدمية ومنخرطا في المشروع الوحدوي العربي مع الرئيس جمال عبد الناصر، ثم في العلاقة مع سوريا على نحو أكثر من نصف قرن، وان يكون في موقع القيادة في الدفاع عن الثورة الفلسطينية، فكل هذه المحطات مرت في ذاكرة وريث الزعامة الجنبلاطية، وكيف انه بدد ثروة وطنية كبرى، في ان يكون مع قوى سياسية وحزبية، تقوم على العداء للعروبة وفلسطين، ولكل مقاوم لإسرائيل، وتعمل لرفع الحواجز مع سوريا، فكان خطابه يشبه خطابات مؤسس حزب الكتائب بيار الجميل، وهو ما كان يتباهى به سمير جعجع إذ كان يقول ان جنبلاط أصبح في خط “القوات اللبنانية”.
هذه المشاهد السياسية مرت أمام جنبلاط الذي كان يرى سقوط المشروع الاميركي في المنطقة وهزيمة الجيش الاسرائيلي، وهو من اكبر الجيوش وأقواها في الشرق الاوسط، أمام المقاومة في لبنان وفلسطين، كما ان الوضع الداخلي اللبناني مال نحو المعارضة الوطنية، وان سوريا أصبحت رقماً أصعب وأقوى في المعادلة اللبنانية والعربية والإقليمية، وحتى الدولية، فقرر التموضع في هذا المحور الذي كان يصفه بـ”محور الشر” ويكيل له الاتهامات ويحرض عليه، فكان لا بد له من ان يفك ارتباطه بالمشروع الاميركي، وينهي وجوده مع أدواته في قوى “14 آذار”، ورأى أيضا ان طائفته التي له نفوذ قوي فيها وعليها، قد بدأ يأخذها الى مواقع ليست من تاريخها، ولا تمت الى تراثها، فهي سليلة سلطان باشا الأطرش وشكيب آرسلان وشكيب وهاب، وكل القادة الوطنيين الدروز الذين دافعوا عن العروبة والاسلام، أثناء حملات “الفرنجة” (الصليبيين) على لبنان والمنطقة، كما ان الدروز صمدوا في الجولان ورفضوا الهوية الإسرائيلية وتمسكوا بهويتهم العربية السورية، كما ان أفرادا من أبناء الطائفة الدرزية انخرطوا في أحزاب قاومت الاحتلال كالحزب السوري القومي الاجتماعي الذي كان من استشهادييه وجدي الصايغ وابتسام حرب، إضافة الى المقاوم نضال الحسنية وغيرهم من الذين قاوموا الاحتلال الصهيوني في الجبل.
وفي الوقت الذي كان جنبلاط في موقع بدأ يبتعد عن تاريخ الدروز، كان داخل الطائفة من يعمل على رفض نهجه وسياسته ومواجهة المشروع الاميركي الذي انخرط فيه، وعلى توجيه النصائح له، ان يترك مكانه ويعود الى موقعه الطبيعي، وان لا يهدر تراث والده قبل تراث طائفته، وكان أكثر الناصحين له رئيس “تيار التوحيد” وئام وهاب الذي كان أكثر الخصوم السياسيين له، فلم يوفره في السياسية والإعلام، ولما صدرت منه مواقف تنبئ بتغيير ما، كان بدأ يظهر بعد أحداث 7 أيار 2008، وانه سيحافظ على طائفته، ولا يمكنه ان يذهب بها باتجاه الصدام مع المقاومة وحلفائها، ومنهم حلفاء لها في الجبل نفسه، وقد شعر رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي بخطأ تقديره وتحليله للموقف الذي اتخذه فتقدم وكما هو معروف عنه بعملية نقد ذاتي، واعترف بخطأ رهانه السياسي، وانفتح على المعارضة عموماً والدرزية خصوصاً، وقد تلقف وهاب التحول الذي بدأ جنبلاط يمارسه، ولقاءاته مع “حزب الله” فجسّ رئيس “تيار التوحيد” الاجواء في سوريا التي كلفته القيادة العليا ان ينقل رسالة تقدير وتطمين من القيادة السورية، وكان أول من حملها له، وظهر الى جانبه في منزله في كليمنصو، يصرحان الى وسائل الإعلام، وقد اعتبرت الرسالة السورية، أنها فتحت الباب له، ولكنها لم تدعه الى الدخول، قبل ان يستكمل مصالحات مع أطراف لبنانية تعتبرها سوريا ضرورية، ليعود إليها، فحصلت اللقاءات مع ابرز رموز المعارضة العماد ميشال عون، الوزير سليمان فرنجية، الحزب السوري القومي الاجتماعي، الحزب الديمقراطي اللبناني، إضافة الى “حزب الله” وحركة “أمل” والغداء الذي أقامه وهاب على شرف جنبلاط في الجاهلية، وحضرته شخصيات سياسية.
فكل هذه الخارطة اجتازها جنبلاط الذي لاقته القيادة السورية بالترحيب، وقد أبلغته عبر “حزب الله” الذي تولى أمينه العام السيد حسن نصرالله، ان يكون هو واسطة اتصال جنبلاط مع الرئيس الأسد، الذي تنازل عن كل ما هو شخصي، لانه يريد لطائفة الموحدين الدروز، ان تبقى على كرامتها وعنفوانها، وهي لها تاريخها، وشاركت في الثورة السورية الكبرى، التي قاومت الاحتلال الفرنسي، وقد رفضت الانفصال عن محيطها العربي، وان تنشئ “دويلة درزية” سعت إليها اسرائيل، فرفضها كمال جنبلاط ومانع بقيامها وليد جنبلاط مع القيادات الدرزية الوطنية، حيث لم يصدر صوت درزي واحد يتجرأ على المطالبة بـ”كانتون درزي”، وهذه قوة الدروز، أنهم كأقلية يحملون القضايا الوطنية والقومية، ويكونون في الصفوف الاولى للمقاومة منذ أيام الأمير فخر الدين، وقد عاد جنبلاط الى هذا التاريخ، بل أن اللقاء مع الأسد هو نقطة الانطلاق لعلاقة “جديدة” لان سوريا تستقبل وتحتضن كل من يكون في العروبة ومع فلسطين والمقاومة ضد اسرائيل، في عملية تغيير سلوك…
Leave a Reply