بيروت – «صدى الوطن»
رغم فضيحة اقتحام «مجمع الشفاء الطبي»، يتابع جيش الاحتلال الإسرائيلي عمليّته البرية في قطاع غزة على وقع خسائر عسكرية فادحة تلحق بعديده وعتاده تحت ضربات فصائل المقاومة، في محاولة تبدو يائسة لتحقيق ولو نصر معنوي يعيد بعض ماء وجه «الجيش الذي لا يقهر» ورئيس حكومته بنيامين نتنياهو الذي أصبح مستقبله السياسي على المحك منذ عملية «طوفان الأقصى» التي شنتها «حماس» في السابع من تشرين الأول(أ كتوبر) الماضي.
ففي اليوم الأربعين، للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، تمكنت قوات الاحتلال من بلوغ «مجمّع الشفاء الطبّي» الذي وضعته على رأس أهداف العملية البرية بوصفه مقراً لقيادة حركة «حماس» ومركزاً لاحتجاز الأسرى الإسرائيليين.
وجاء الهجوم الإسرائيلي على المستشفى مدعوماً بضوء أخضر أميركي، وبحثاً عن صورة انتصار تجلت بمسارعة جنود الاحتلال إلى رفع العلم الإسرائيلي على سطح أحد مباني المجمّع الطبّي، بعد عرْض جيشهم صور مجموعة أسلحة خفيفة قال إنه عثر عليها في قسم الأشعة. وعلى هزالة العرض المتهافت الذي قدّمه المقتحمون، إلّا أنه كان كافياً لإقناع الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي يتبنى السردية الإسرائيلية حول اتهام «حماس» باستخدام المستشفيات كمقرّات عسكرية.
وفيما كان بايدن يصرح بأن العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة «ستتوقّف (فقط) عندما لا تعود حركة حماس قادرة على القيام بأشياء مروّعة للإسرائيليين»، كانت القوات الإسرائيلية تجرف بعض أجزاء المجمع الطبي، كما سُمع الجنود الإسرائيليون وهم يطلقون الرصاص عدّة مرات، خلال دخولهم أقسامه. وفي حين أعلن الجيش الإسرائيلي أن جنوده يقومون بعمليات تفتيش تفصيلية في طوابق المرفق وغرفه، وأن هذه العملية «بطيئة»، وتستغرق وقتاً، أعلن مدير المجمع أن «المستشفى مظلمٌ تماماً، لغياب الكهرباء»، بينما «يعمل الاحتلال على تخريب محتوياته وتجهيزاته بشكل منظّم». كذلك، أعلن «وفاة 3 أطفال خُدَّج في المستشفى»، فيما زعم جيش العدو أنه «عثر قرب المستشفى على جثة رهينة إسرائيلية»، كانت قد خُطفت يوم «طوفان الأقصى». وأوضح بيان للجيش أن «جثة هذه المرأة التي خُطفت من كيبوتس بئيري، أخرجتها قوات الجيش الإسرائيلي من مبنى محاذٍ لمستشفى الشفاء».
ورغم عدم تقديم أي دليل مقنع على وجود مقر قيادة لـ«حماس» في «الشفاء»، بات واضحاً أن الاحتلال يتعمّد استهداف المستشفيات في شمال قطاع غزة، وضربها لإخراجها من الخدمة، متطلّعاً من وراء ذلك إلى إزالة كلّ مقوّمات الصمود المدني في المنطقة، دفعاً نحو تفريغها تماماً من غير العسكريين، وجعلها منطقة غير قابلة للعيش. وفي هذا السياق، حذّر «برنامج الأغذية العالمي»، من أن السكان (في غزة) يواجهون «احتمالاً مباشراً للموت جوعاً»، حيث أصبحت «إمدادات الغذاء والمياه معدومة عملياً».
وقال الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني (حكومي) إن 807 آلاف شخص ما زالوا يقيمون في الجزء الشمالي من القطاع، في حين نزح نحو 400 ألف نسمة إلى وسط وجنوب القطاع الذي يقدر عدد سكانه بنحو ٢.٣ مليون نسمة. وكانت قوات الاحتلال طالبت مرارا أهالي شمال غزة بالنزوح جنوباً، لكن معظم سكان تلك المناطق أكدوا صمودهم في منازلهم وعدم النزوح ورفضهم للتهجير رغم الأوضاع الإنسانية المزريجة في ظل انقطاع والغذاء والدواء والكهرباء والمياه.
وفي إطار استهداف المستشفيات الذي يعيق أيضاً عملية إحصاء الشهداء والجرحى الفلسطينيين، واصلت الدبابات الإسرائيلية تقدّمها من أمام «مجمع الشفاء»، شرقاً في اتجاه وسط مدينة غزة، حيث وصل رتل آليات إلى محيط «المستشفى الأهلي المعمداني»، ودارت اشتباكات عنيفة في المكان ومحيطه.
ومنذ بداية الغزو البري للقطاع، ومحاولة الإطباق على مدينة غزة، يواجه جيش الاحتلال خسائر فادحة بجنوده وآلياته، حيث اعترفت إسرائيل بمقتل ما يزيد عن ٥٠ ضابطاً وجندياً منذ بدء العملية البرية، فيما يعتقد بأن الأرقام الحقيقة أعلى من ذلك بكثير.
ويتقدم جيش الاحتلال ببطء من عدة محاور، حيث يواجه مقاومة متخفية قادرة على تكبيده خسائر يومية. ووصفت صحيفة «هآرتس» أسلوب قتال المقاومة في غزة، بأنه «عبارة عن عشرة أفراد يرسلون طائرة استطلاع مُسيّرة مع خيوط الفجر الأولى، تحدّد لهم أماكن الدبابات والآليات والحشود العسكرية، وخطوط سيرها المحتملة، ثم يتوزّعون إلى فرق: كلّ فرقة تتكوّن من فردَين يرتديان ملابس مدنية خفيفة، ويضع أحدهما كاميرا على رأسه، ثمّ يقضي الجميع نهارهم في التحرّك بين تلك الحشود والآليات عبر وسائلهم الخاصة في الاختباء، من أنفاق وأزقّة ضيّقة وبنايات مدمّرة، مستهدفين القوات الإسرائيلية بأسلحة دقيقة وموجّهة. ومع حلول الظلام يختفون ويعودون إلى قواعدهم، وهكذا». وتساءل التقرير: «كم من الوقت بإمكان جيشنا الصمود في وجه هذا الاستنزاف، وهذه المواجهة بين جيش بوسائله ومعدّاته الثقيلة، وعشرة أفراد أو عشرين فرداً على الأكثر في اليوم؟».
وفي سياق متصل، بعث قائد «قوّة القدس» في الحرس الثوري الإيراني، الجنرال إسماعيل قاآني، برسالة إلى القائد العام لـ«كتائب عز الدين القسام»، محمد الضيف، يؤكد فيها أن «العمليات البرية التي بدأها العدو، والضربات المتتالية التي وجّهتها المقاومة إلى قواته ومدرّعاته، أثبتت للجميع أن المقاومة في غزة قادرة على المبادرة والابتكار، مع الحفاظ على تنظيمها وقدرتها الميدانية». كما أكّد قاآني أن «إخوانكم الملتحمين معكم في محور القدس والمقاومة، ومعهم كلّ شرفاء الأمة وأحرار العالم، لن يسمحوا لهذا العدو المتوحّش ومن يقف خلفه بالاستفراد بغزة وأهلها الأبطال الصامدين، ولن يمكّنوه من الوصول إلى أهدافه».
وجاءت رسالة قاآني بينما يستمر «حزب الله» باستهداف جيش الاحتلال على طول الحدود اللبنانية بالتوازي مع تصعيد فصائل المقاومة لعملياتها في الضفة الغربية وتحديداً في جنين، فيما يواصل «أنصار الله» في اليمن إطلاق الصواريخ والمسيرات باتجاه الأراضي المحتلة، مهددين باستهداف السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر. كذلك تواصل فصائل عراقية شن هجمات على القواعد الأميركية في العراق وسوريا، في أداة ضغط إضافية على واشنطن المستمرة بدعمها المطلق للحرب الإسرائيلية التي أودت بحياة نحو 11,500 فلسطيني بحلول الخميس الماضي، بينهم حوالي 4,700 طفل، و3,130 امرأة، بحسب المصادر الحكومية في قطاع غزة.
من جهته، أكّد رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»، إسماعيل هنية، في كلمة متلفزة، أنه «بعد 41 يوماً من العدوان الهمجي، لن يستطيع العدو تحقيق أيّ من أهدافه أو استعادة أسراه إلا بدفع الثمن الذي تحدّده المقاومة». ودعا هنية إلى تنفيذ «ما صدر عن أعمال القمة العربية والإسلامية الطارئة من قرارات، وخاصة المتعلّقة بوقف العدوان وكسر الحصار فوراً». أما بالنسبة إلى قرار مجلس الأمن الذي صدر قبل يومين، فاعتبر أنه «كان ينبغي أن يتضمّن إدانة صريحة ومباشرة لجرائم الحرب والتطهير العرقي التي يرتكبها العدو في غزة والضفة».
وتوجّه هنية «إلى العدو وكلّ داعميه الذين يمنّون النفس بتغيير الواقع السياسي والميداني لقطاعنا، بأن حركة حماس متجذّرة في أرضها ولن يستطيع العدو وكلّ من معه تغيير هذا الواقع بإذن الله». وشدّد هنية على أن «نصرة غزة بالمال والسلاح والجهاد يجب أن تتجاوز كلّ المعيقات مهما كانت»، موجّهاً «التحية إلى جبهات المقاومة الساخنة التي تُسهم في هذه المعركة على طريق التوازن الإستراتيجي الضاغط على العدو».
على الصعيد الدولي، عادت واشنطن لتؤكّد دعمها الثابت لحرب إسرائيل على قطاع غزة، إذ اعتبرت الخارجية الأميركية، في بيان أن «وقف إطلاق النار لن يفيد سوى «حماس»، ونسعى إلى فرض هدن إنسانية مطوّلة»، مشيرة إلى أن واشنطن تعمل على «إنشاء مناطق آمنة في جنوب قطاع غزة». وعادت الوزارة لتتبنّى الرواية القائلة إن «حماس» تستخدم المستشفيات لـ«إخفاء مقاتليها، وحفرت أنفاقاً في أسفلها»، زاعمةً أنه «ليست لدينا تقارير تفيد بأن إسرائيل قد انتهكت القوانين الدولية في حربها في غزة».
وبحسب المراقبين، تتخوّف إسرائيل من تكرار تجربة وقف إطلاق النار عام 2014، أثناء عدوان «الجرف الصامد»، والتي كلّفتها سقوط جنود قتلى وأسيرَين، ومن أن إرساء هدنة لأيام من شأنه أن يؤثّر في سير المناورة البرية بشكلها الحالي في الحدّ الأدنى، وعلى مصير الحرب في الحدّ الأقصى. وعلى هذا الأساس، انشغل الإسرائيليون بالوقوف على الأسباب الكامنة وراء رفض إسرائيل للهدنة، رغم أنّ هذه الأخيرة تعدّ شرطاً أساسياً لصفقة تبادل أسرى محتملة، تستعيد فيها دولة الاحتلال نساء وأطفالاً إسرائيليين محتجزين لدى المقاومة، مقابل إفراجها عن أسرى فلسطينيين من النساء والأطفال في سجونها.
ويشهد مجلس الحرب الإسرائيلي (كابينت الحرب) خلافات داخلية بشأن قبول صفقة أسرى جزئية. وأفادت «القناة 13» العبرية، الخميس الماضي، بأنه فيما يبدي الجيش مرونة ولا يضع العراقيل أمام صفقة الأسرى، يتشدد نتنياهو ووزير الأمن يوآف غالانت بشأنها.
وبحسب القناة، تُسمع داخل الكابينت أصوات أخرى أيضاً، فبالإضافة إلى الوزيرين بني غانتس وغادي آيزنكوت، يؤيد رئيس جهاز الاستخبارات «الموساد» ديفيد برنيع أيضاً الموقف الداعي إلى القبول باقتراح «حماس» (صفقة أسرى جزئية). ووفقاً لتقارير إعلامية متعددة، قام رئيس حركة «حماس» في غزة، يحيى السنوار، بقطع الاتصالات مع الوسطاء (قطر)، موقفاً المفاوضات على خلفية اقتحام جيش الاحتلال مجمع الشفاء الطبي.
من جهته، قال وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، إنّ حقيقة أنّ السنوار ما زال قادراً على إدارة المفاوضات وتحديد شروط إطلاق سراح المحتجزين، «تعني أننا لسنا في الاتجاه الصحيح».
بدوره، قال نتنياهو إنه سيكون هناك وقف مؤقت لإطلاق النار في غزة، إذا تم استعادة المحتجزين، مشيراً إلى أن الجيش الإسرائيلي يقترب من ذلك «أكثر مما كنا قبل بدء التوغل البري».
Leave a Reply