نبيل هيثم – «صدى الوطن»
«موسكو تغير قواعد اللعبة فـي سوريا».
ليس هناك من عنوان اكثر تعبيراً عن ذاك الذي اعتمدته وسائل الاعلام الروسية فـي تناولها للتحركات الأخيرة التي أمر بها فلاديمير بوتين فـي سوريا، والتي بدأت تثير قلقاً متنامياً لدى الاميركيين والاسرائيليين على وجه الخصوص.
التحرك الروسي فـي سوريا كان مفاجئاً للجميع، ليس فـي حجمه فحسب، وانما فـي تأثيراته الجيوسياسية، والتي من خلالها تسعى الى قلب الموازين السورية والاقليمية عبر وجود معلن ومتزايد على الساحل السوري، الذي لا يزال عصياً أمام هجمات الجماعات المعارضة، وخصوصاً التكفـيرية منها.
![]() |
فلاديمير بوتين متوسطاً رئيس الوزراء ميدفيديف وكبير موظفي الكرملين سيرغي إيفانونف. (أرشيف) |
ولعل عنصر المفاجأة فـي هذا الامر يكمن فـي طابع استخباراتي يعيد الى الأذهان فترة الحرب الباردة بين الاتحاد السوفـياتي السابق والولايات المتحدة. وبحسب ما تكشّف خلال الأيام الماضية فإن التحرك الروسي لم يكن وليد الساعة، بل تم التمهيد له منذ فترة ليست بقليلة، تزامناً مع بدء الحديث عبر منابر الكرملين ووزارة الخارجية فـي موسكو عن مقاربة روسية للصراع السوري.
وبحسب صحيفة «دايلي مايل» البريطانية فإن روسيا بدأت بنشر قواتها على الأراضي السورية منذ نيسان (أبريل) الماضي على اقل تقدير، حيث ارسلت شحنات أسلحة متطورة إلى سوريا، بما فـي ذلك مستشارين عسكريين وفرقاً للتدخل السريع ووحدات لوجستية، مع العلم أن المستشارين الروس موجودون بالفعل فـي سوريا منذ العام 2012، أي بعد أشهر من بدء الصراع السوري، وهو ما كشف عنه بالفعل وزير الدفاع الروسي السابق أناتولي سيرديوكوف، علاوة على أن المسعى الروسي لتعزيز التواجد العسكري فـي سوريا يعود الى ما قبل الأزمة الحالية، حين كشفت موسكو النقاب فـي العام 2010 عن خطط لتوسيع قاعدة طرطوس البحرية.
حتى الآن، ليس بإمكان احد تفسير عنصر المفاجئة الروسي فـي ما يتعلق بالتحرك العسكري فـي سوريا، فقد يكون الامر مجرّد سوء تقدير من قبل الولايات المتحدة لجدية الرئيس فلاديمير بوتين، وقد يكون الأمر خداعاً استراتيجياً مارسه قيصر الكرملين قبل تحديد الساعة الصفر.
ولكن مما لا شك فـيه ان التحرك الروسي قد أربك الكل، بدءاً بالولايات المتحدة التي تخلت عن سياسة القطيعة ضد روسيا منذ اندلاع النزاع فـي أوكرانيا، وبدء تطبيق العقوبات الدولية على موسكو، وصولاً الى اسرائيل التي انطلق رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو مسرعاً الى موسكو للحصول على تطمينات بشأن طبيعة التدخل وآفاقه.
وبدا الإرباك الاميركي واضحاً حين حاول وزير الخارجية جون كيري التقليل من أهمية الحشود العسكرية الروسية فـي اللاذقية، وامكانية ان تؤدي الى تحول فـي مسار الحرب السورية ضد التنظيمات التكفـيرية، وعلى رأسها «الدولة الإسلامية فـي العراق والشام» (داعش)، حين قال ان التحرك العسكري الروسي «دفاعي»، مناقضاً بذلك تسريبات مسؤولين عسكريين أميركيين، بالاضافة الى صور مأخوذة عبر الاقمار الاصطناعية، عن وجود عشرات الطائرات الحربية والطوافات وقطع مدفعية، وتأكيد مصادر عسكرية سورية رفـيعة المستوى على أن دمشق تسلمت طائرات حربية روسية وطائرات من دون طيار وأسلحة متطورة، وأن أثرها بدأ يظهر فـي الغارات التي استهدفت مواقع تنظيم «داعش» فـي دير الزور والرقة وتدمر.
فـي العموم، صارت روسيا فـي سوريا أمراً واقعاً امام الجميع. وبحسب ما رُصد من قبل دوائر الاستخبارات الغربية، فإن هذا التواجد العسكري يشتمل على ما يلي:
– أكثر من 25 طائرة مقاتلة وهجومية.
– 15 طائرة مروحية.
– تسع دبابات.
– ثلاثة أنظمة صواريخ أرض جو.
– نحو 500 عنصر بين عسكريين وفنيين.
ووفقاً لما ذكرته صحيفة «نوفايا غازيتا» فإنّ القوات الروسية الموجودة فـي سوريا قد تشارك بشكل مباشر فـي العمليات العسكرية ضد مقاتلي «داعش» وغيرها من المجموعات المسلحة المنتشرة فـي العديد من المناطق السورية. وهي تشير الى ان هذا القرار اتخذ من الكرملين مباشرة، ومن المنتظر أن تبدأ تلك العمليات بعد خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فـي الثامن والعشرين من الشهر الحالي فـي الامم المتحدة. وبحسب الصحيفة الروسية، القريبة من دوائر صناعة القرار فـي موسكو، فإن الحديث يدور عن سيناريو عسكري يشارك من خلاله الجنود الروس فـي المعارك الدائرة فـي سوريا عبر طلعات جوية مركزة على مواقع عسكرية محددة، من دون أن يعني ذلك تنفـيذ عمليات عسكرية مباشرة على الارض، بالاضافة الى قصف مدفعي وصاروخي على أهداف محددة، ما يسمح لقوات الجيش السوري بالتقدم ميدانياً مستخدماً عتاداً جديداً ومتطوراً حصل عليه مؤخراً من الحليف الروسي.
هكذا، جاء التحرك الروسي ليطوي صفحة فـي الصراع السوري، ويفتح أخرى، إذ أنهى من الناحية العملية استئثاراً أميركياً، -سواء عبر «التحالف الدولي» ضد «داعش» أو عبر القوى الاقليمية الحليفة لواشنطن من سلطان تركيا رجب طيب أردوغان الى أمراء وملوك الخليج وافسح الطريق أمام توازن دولي جديد على الارض السورية.
ولا شك ان التحرّك الروسي فـي سوريا قد اتى فـي لحظة سورية وإقليمية ودولية حساسة. ففـي الداخل السوري كان ملفتاً خلال الفترة الأخيرة تحقيق الجماعات المعارضة لنظام الرئيس بشار الأسد انجازات ميدانية، سواء فـي إدلب وريفها، حيث احكم تنظيم «جبهة النصرة» السيطرة، وبات يهدد منطقة الساحل، حيث القاعدة البحرية الروسية، التي تشكل آخر موطئ قدم لموسكو على البحر المتوسط.
ولا يخفى على أحد أن إنجازات المسلحين الميدانية كان لها أثرها السياسي، فعلى وقعها أغلقت الولايات المتحدة والسعودية أفق الحل السلمي، وهو ما تبدّى فـي اصرار السعودية على وجه الخصوص على استبعاد الرئيس بشار الاسد من التسوية المرتقبة.
ومن ناحية ثانية، فإنّ التحرك الروسي يأتي بعد أسابيع قليلة على تطوّر العلاقات التركية-الأميركية
والذي كانت من نتائجه فتح انقرة قاعدة «انجيرليك» الجوية امام الطائرات الاميركية كمنطلق لتنفـيذ ضربات جوية ضد تنظيم «داعش» فـي سوريا، بحسب ما هو معلن، وهي خطوة تنظر اليها موسكو بعين الريبة، لجهة احتمال
ان تكون مقدمة لتدخل شامل فـي سوريا، كتكرار للسابقة الليبية.
على الأقل لاعتبارات القرب الجغرافـي، حيث تستدعي مباشرة البعد الدولي للصراع فـي سوريا. يضاف إلى ذلك خشية بوتين من قدرة تركيا والسعودية ودول الخليج وخصوم النظام السوري مجتمعين على إقناع الرئيس الأميركي باتخاذ سياسة أكثر تشدداً حيال النظام السوري، خصوصاً مع فشل السياسات الأميركية الواضح حيال سوريا منذ العام 2011 حتى الآن.
علاوة على ذلك، فإنّ التحرك الروسي يتزامن مع بدء الخطوات التطبيقية لاتفاق فـيينا النووي بين إيران ومجموعة دول الـ5+1، بما يشتمل عليه من تداعيات سياسية تثير قلقاً روسياً، برغم التطمينات الاميركية من جهة، والخطاب الحاد الذي ما زالت طهران تنتهجه إزاء العلاقات مع الولايات المتحدة.
ويبدو أن الريبة الروسية منطلقها التطورات الأخيرة فـي اليمن، لجهة التقدم الميداني الذي حققه التحالف السعودي ضد الحوثيين والجيش اليمني فـي جنوب البلاد، وأبرز نتائجه استعادة السيطرة على عدن، «العاصمة المؤقتة» للرئيس عبد ربه منصور هادي، وما يتردد عن تخلي ايران عن دعمها لـ«أنصار الله» كـ«بادرة حسن نية» تجاه الولايات المتحدة والخليجيين، والكلام هنا للصحافة الاميركية. وبصرف النظر عمّا اذا كانت الريبة الروسية كامنة فـي مثل هذه التقارير، فإنّ الكرملين، ومن دون شك، يضع فـي حسبانه احتمال ان تنجح السعودية فـي انهاء الصراع اليمني لصالحها -سياسياً أو عسكرياً- بما يجعلها تنتقل الى مرحلة اكثر تقدماً فـي الصراع الاقليمي، وتحديداً فـي سوريا، خصوصاً أن ثمة حديثاً جدياً يدور فـي كواليس الديبلوماسية عن ان معركة اليمن تشكل نقطة مفصلية فـي مستقبل السياسة الخارجية السعودية فـي الشرق الاوسط.
هذا على المستوى الاقليمي، أما على المستوى الدولي، فمما لا شك فـيه ان التحرك الروسي الاخير فـي سوريا يأتي فـي سياق استراتيجية بعيدة المدى يعتمدها الرئيس فلاديمير بوتين. وتقوم على ركيزتين: الاولى هي تأمين الجبهة الداخلية لروسيا والمجال الحيوي المتمثل بجمهوريات الاتحاد السوفـياتي السابق، خصوصاً بعد العبث الغربي فـي اوكرانيا وجورجيا ومناطق اخرى، والثانية الحفاظ على حرية حركة على المسرح الدولي، وتحديداً فـي منطقة الشرق الاوسط، ما يؤكد مقولة تتردد منذ خمس سنوات فـي موسكو، وهي ان معركة سوريا هي ستالينغراد القرن الحادي والعشرين بالنسبة الى روسيا، وهي كما سابقتها ايام الحرب العالمية الثانية، معركة لا تحتمل نصف ربح ولا نصف خسارة.
Leave a Reply