كل شيْ من حولنا كانت تفوح منه رائحة الشمس. القيظ كان قاسياً يجلدنا بأنفاسه كالسياط. نظراتنا كانت تسير حافية لا تشعر سوى بالوجوم الطافح من الاسفلت. الشوراع كانت مجردة من الرحمة في صيف كصيف الرياض، تجبرك على أن تلوذ بأقرب مكان مكيّف لتلقي بجسدك فيه كأنما تلقي بسيخ ساخن في الماء.
كان ذلك في منتصف يونيو، بأواخر تسعينات القرن الماضي، عندما آلت الأمور للموعد المرتقب الذي تحسمه اللحظة، بل ويحكمه جزء من الغفلة وعلاقة الأشياء بقدرها، للذي قدر فهدى.
كنت في ذلك اليوم أتفقد الحالة التي أصبح عليها مشروع الديكور الذي تم إسناده إلى مؤسستنا آنذاك من قبل وزراة الإعلام السعودية لمكتب الوزير وذلك على كامل مساحة الطابق السابع من مبنى الوزارة، وقد قمنا حينها بالتعاقد على أعمال الديكورات الخشبية للأسقف والجدران مع مصنع الراجحي للأعمال الخشبية الذي كان يعمل به صديقي هيثم مديراً للإنتاج في ذلك الوقت، وهذا لما اشتهروا به من دقة في التصنيع والتنفيذ في الموعد المحدد.
وعادة مثل هذه الإتفاقات تُحدد في فترة زمنية معينة تطول أو تقصر حسب ظروف أطراف الإتفاق، فأحياناً ما يتم إرجاء بعض الأمور نظراً لما قد يطرأ على أصحاب القرار أو لظروف اخرى، مهما توافرت كل المعطيات. في النهاية يصبح الطرفان جزءاً أصيلاً لا يتجزأ عن الاتفاق وتظل كل الامور المخفية التي قد تطرأ في قبضة القدر، وكأن التفاصيل كلها كانت جزءاً من الاتفاق غير أن المخفية منها تظل غير ملزمة لأنها لم تكن معلومة وإلا كُتبت لتصبح معلقةً في عنق أحد الطرفين وقت وقوع الحدث وما يحمله من مفاجآت قد تتحقق في اليوم كذا أو الساعة كذا، الى أن تحين اللحظة التي كانت تتلاعب بجميع الاوراق مسبقاً حتى تدركنا مشيئة الله.
يحدث هذا بناءً على معطيات على الأرض تبدو وكأنها طبيعية عند تحققها وإن كانت بأسباب تؤول كلها للقدير الهادي سبحانه حتى تحل بنا إرادته.
كنت اقف أمام المبنى أنتظر العمال وأنا قلق تتردد عيني على ساعة يدي تحسباً لعدم حضورهم في الموعد، وذلك من أجل أن أحصي كميات الخشب المصنع الذي سوف يتم نقله بعد ذلك عبر صندوق حديدي يصعد الى الطابق السابع. ما لم تخني الذاكرة، وصل عمال “الراجحي” بالموعد وبدأوا بإنزال الأعمدة والأخشاب المزخرفة من الشاحنة وتم وضعها على الأرض بجوار بعض المعدات الخفيفة تمهيداً لرفعها الى الطابق السابع. ثم بادر العمال بنقل بعضها عبر الصندوق الذي كان يرفع بواسطة الجنازير المتصلة بماكينة السحب الكهربائية. وضعوا بالفعل بعض الأعمدة التي كان يصل إرتفاعها الى أربعة أمتار (12 قدماً تقريباً)، ولأنها كانت مكدسة ومتلاصقة فمن الصعوبة بمكان أن ينفلت أحدها ليسقط، حينها التفت الى المراقب وسألته عن كيفية تركيب بعض القطع الخشبية ببعضها لتصبح وحدة زخرفية كجزء من تصميم العمل الفني، وذلك ليطمئن قلبي، فلم يكن المهندس هيثم قد وصل بعد. ولأن المراقب لم يعط إجابة شافية أخرجت قلماً سائلاً من جيبي وكذلك تحسست ورقاً لأرسم عليه، فلم أجد، فتفحصت الجوار علّني أجد شيئاً أرسم عليه لأبين فكرتي، فوجدت منشاراً كهربائياً يتم تحريكه يدوياً به سلاح حاد دائري الشكل يدور على قاعدة ثابتة وقد ألقي بشكل عفوي بجوار الصندوق الذي كان يشق طريقه الى الأعلى. اتجهت صوبه وقد رافقني المراقب كي يستوعب ما أرسمه. جلست القرفصاء وبدأت أرسم على الغطاء المعدني الذي يغطي سلاح المنشار المخصص لقطع المرابيع الخشبية والذي وُضع عليه تحسباً للأمان، حيث كان عرض هذا الغطاء لا يقل عن ثلاثة بوصات على الأقل. قمت بالفعل برسم بعض التفاصيل. ولسبب ما انقطع الحبر السائل من القلم، فالتفت فجأة للمراقب لأستفسر منه عن قلم آخر لأستكمل به الرسم، ودون أن يشعر وضع يده على جيبه وأجاب بـ”لا”. وقبل أن أعود برأسي فوق المنشار مرة أخرى لأعاود المحاولة لعل القلم يستجيب، صعقت من سماع صوت وكأنه طلق ناري فنهضت مذعوراً لم أعرف الى أين اتجه وقد قفز المراقب من مكانه، وإذا بأحد هذه الأعمدة قد سقط من المصعد الذي استقر عند الطابق السابع وتهاوى بشكل عمودي ليخترق غطاء المنشار وينفذ الى السلاح الدائري ويثبت على حاله مشيراً الى السماء من نفس موضع رأسي، وقد اخترق مكان الرسم بالتحديد ليحل محله…
كان انقطاع الحبر من القلم في لحظة أراد الله له أن يجف عندها في ترابط قدري لتسلسل الأحداث التي ارتبطت ارتباطاً وثيقاً منذ اسناد هذا العمل الينا وقيامنا بتنفيذه وإسناد جزء منه لتلك الشركة وما بين هذا وذاك من تفاصيل معقدة أُدير فيها الوقت بكامله منذ اللحظة الأولى بدقة حتى انتهت الأحداث الى هذه اللحظة التي قال الله فيها كلمته وتولى الأمر في لحظة جف عندها القلم لأحيد برأسي عن الموت وأنجو بأمر من الله، فتوهب لي الحياة من جديد، والآن قلم آخر في يدي في غير أرض وغير يوم وغير ساعة وغير لحظة لازال سائلاً أكتب به ولم يجف.
Leave a Reply