مع قرب إنتهاء فترة الأمتحانات للمبتعثين في إوروبا وأميركا وأستراليا، شيئاً فشيئاً تنطوي صفحة الهموم والآهات للطلبة والطالبات الذين كتب لهم أن يتلقوا العلم في ديار الإغتراب، وتفتح صفحات حنين العودة الى الأوطان، فيتسابقون الى مكاتب حجوزات الطيران، ويهرعون الى الأسواق لشراء الهدايا الى أحبتهم، هذا الشوق والحنين الذي يعتمل في نفوس الشباب يتحول الى رغبة جامحة في ترجمة تلك المشاعر المشروعة التي أرتبطت بفطرة الإنسان أرتباطاً وثيقاً، وقد وردت في التراث الانساني ما يدلل على مشروعية هذه الغريزة.
على الصعيد النظري هناك من الروايات والأحاديث في الكتب المقدسة لكل الأديان، ويمكن القول أن الدين الأسلامي هو من رسخ هذا المفهوم وجسّده نبي الاسلام محمد (ص)، وقال: «حب الوطن من الإيمان» ربما يقول البعض أن الحديث مكذوب، ولكن ما تواتر عن النبي (ص) في حبه وشوقه لمسقط رأسه يكفي دلالة على حب الوطن.
على الصعيد العملي الواقعي، فإن هذه الغريزة لا ينفرد بها الانسان وحده وإنما يتعداه الى الى كل الكائنات الحية وربما يتساوى فيه الانسان والحيوان، وقد أثبت العلماء أن الحيوان يألف مكان عيشه، وإن هاجر عن موطنه في فصول العام ما يلبث أن يعود إلى أوكاره، وكنا في صغرنا عندما تنزعج أمهاتنا من قطة تأمرنا بإخراجها من المنزل فنقوم بنقلها من مدينة الى مدينة آخرى ربما تبعد عشرات الكيلومترات، وبعد يوم أو يومين ما تلبث أن تعود، فسبحان الله الذي أعطى كل نفس هداها.
«الفقر فـي الوطن غربة والغنى فـي الغربة وطن»
ربما يتصور البعض أن مجرد الخروج من الوطن الذي لا يجد ألإنسان فيه مصدر رزقه فيعيش مضطراً في حالة العوز والحاجة الى الناس ثم يكون فريسة للذل والهوان، أو يعيش حالة الإضطهاد والكبت والظلم وسلب الحق والتمييز، هذا التصور صحيح وقد قال الله سبحانه وتعالى {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالو ألم تكن أرض الله واسعة فيهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا} فأرض الله ليست بالضرورة موطن الانسان الذي ولد فيه وهنا يتوجب عليه كسر هذه القاعدة والعمل بالقاعدة الأهم التي سوف يسأل عنها أذا قصّر ورضي بالذل والهوان، يقول: الإمام علي (ع) «الفقر في الوطن غربة والغنى في الغربة وطن».
حب الوطن يتغلب على جمال الطبيعة والمناخ
إن الذين جربوا العيش في أميركا وأوروربا يجيبون على هذا السؤال إذا رجعوا الى ذواتهم وحاكوا فطرتهم فإن هذا النعيم الزائف لا يصمد أمام حب الوطن والالتصاق به والاحساس بالانتماء اليه، هذا الأمر كنا نتصوره عند المتقدمين في السن الذين يرومون العودة الى أرض الوطن مهما كلف الامر، لكن هذا التصور سقط مع إجراء عيّنة مسح على الطلبة والطالبات من المملكة العربية السعودية الذين يبلغ عددهم أكثر من أربعين آلفاً فقط في الولايات المتحدة الأميركية، نتيجة المسح أظهرت ما نسبته 08 بالمئة ينتظرون العطلة الصيفية بفارغ الصبر، مع أنهم يعلمون أن الشهور الثلاثة، حزيران (يونيو)، تموز (يوليو)، آب (أغسطس)، من الشهور التي تصل درجة الحرارة فيها الى 54 درجة، والمواطن السعودي يفـرّ من جحيم الصيف، ولكن حب الانسان لوطنه فطرة مزروعة فيه فإنه ليس من الضروري ان يكون الوطن جنة مفعمة بالجمال الطبيعي تتشابك فيها الاشجار وتمتد على ارضها المساحات الخضراء وتتفجر في جنباتها ينابيع الماء، كي يحبه ابناؤه ويتشبثوا به، فقد يكون الوطن جافا، مناخه كما هو الحال في مناخ دول الخليج، الشمس فيه حارقة، وعوصف الغبار المتصاعدة، تسبب الإختناق كما حصل في الكويت في الأيام القليلة الماضية.
متى يتحقق صدق الإنتماء الى الوطن؟
كثرت الإجتهادات في تعريف المواطن الذي تنطبق عليه شروط المواطنه، فمنهم من أكتفى بوصف الإنسان الذي يحمل مشاعر الحنين الصادق لوطنه عندما يُغادره إلى مكانٍ آخر، ويعتبر ذلك دليلاٌ على قوة الارتباط وصدق الانتماء. ومنهم من أشترط صدق الإنتماء الى الدين أولاً ثم الوطن ثانياً، وفي الحقيقة يبقى الإنتماء ناقصاً إذا أكتفى المواطن بحبه للإرض دون الإنسان الذي يعيش معه على تلك البقعة من الارض والعيش معه بسلام وتآلف ومحبة وتآزر وتآخي مع كل المواطنين الذين يمثلون في مجموعهم جسداً واحداً يواجهون كل التحديات وإن إختلفت آراؤهم ومشاربهم ومذاهبهم في ظروف الحرب والسلم، فإذا تحقق العمل من الجميع على صيانة وحماية حياة إبناء الوطن وتحقيق العيش الكريم ، بهذه الشروط يعرف المحب والعاشق لوطنه.
Leave a Reply