يحيا الكثيرُ منّا، العديدَ من المواقف والظواهر التي تمرُّ عليه خلال مسيرةِ حياته، فيختزنها عن وعيٍ أو بدونه، في صناديقِ الذاكرة التي تكون مغلَقة أحياناً أو مفتوحة أحياناً أخرى، حتّى إذا صادفَ مثيلاتِها عاد لاستخراجِها واستعراضِها كما لو كانت شريطاً سينمائيّاً، بهدف المقارَنة أو اكتشاف المفارَقة بين التقادمِ الزمني لوقوعِهِما.
نهار السبت، كان يوماً مثلِجاً بامتياز، قادني فيه الفضول لأرى ماذا يحدث في الخارج، نظرتُ من النافذة فإذا بي أرى منظراً في غاية الجمال، حيث أعلنت الطبيعةُ انقلابَها، فغدتْ هادئةً يلفّها السكون، ونثيثُ الثلج يتناثر كالقطن المندوف في جميع الإتّجاهات، مشكِّلاً بساطاً ناصعَ البياض يغطّي كلَّ ما تقع عليه العين، يتوهّج بياضُه كفساتين العرائس المرصَّعة باللآليء.
قادني ذلك المنظر في تلك اللحظة، إلى استخراج شريطٍ من الماضي الحافل بالذكريات الجميلة التي تمنّيتُ لو نعيشها اليوم في خضمِّ هذا اللهاث الحاضر وراء المال والنزوات والأبّهة الزائلة، كانت لموسم هطول الثلج طقوسٌ ذات خصوصيّة في ضيعتِنا الجميلة المتواضعة تلك حيث يحتضنها لبنان، أيّام كان الناس يعيشون البساطةَ والبراءةَ وطيبةَ القلب، وكانت مدفأةُ الحطب هي المنقذ الوحيد من مداهمةِ الصقيع، وتؤدّي بالإضافة إلى التدفئة، خدماتٍ أخرى تضفي البهجةَ على المكان، كأن تكون أداةً للطبخ، ومجمرَةً تُشوى عليها حبّات الكستناء، ذات المذاق الحراريّ تحت لسعات البرد.
حتّى إذا حلّ الليل، كان الجميعُ يلتفّون متحلِّقين حول تلك المدفأة السحريّة، بمن فيهم الزوّار الذين يأتون لقضاء السهرة، ولعب الورق، فيما كانت والدتي رحمها الله دائبةَ الحركة، تجهِّز الصواني المشكَّلَة بالجوز واللوز والزبيب والتين المجفَّف، وتضعها على الطاولات، وفي الناحية الثانية تحضِّر (الزهورات)، ذلك المشروب المُفضَّل في فصل الشتاء لدى القروِيّين، كنتُ كلّما نطرتُ إلى المدفأة يدهشُني منظر ذلك الإبريق النحاسيّ لكبر حجمِهِ، فأمازح والدتي بسيلٍ من الأسئلة، من قُبَيل (من صمّمَ لكِ هذا الإبريق، وأيُّ مصنعٍ قام بتنفيذِه؟) فتجيبني ووجهها يشعُّ نوراً وبهاءً، بكلماتٍ مصحوبةٍ بضحكةٍ خافتةٍ (ألا تكفّين عن المزاح ياصغيرتي؟)
في هذا الوقت، يكون قد حان وقتُ شرب (الزهورات) وأكل الجوز وبقيّة المكسّرات يتبعها الزبيب والتين المجفّف، ذلك لأنّ اللاعِبين يكونون قد توقّفوا عند فرصةِ استراحة المحارِب، فيتسبّبون بإرهاقِ ميزانيّة والدتي، لكثرة استعمالهم لملاقطِ الغسيل التي يصنعون منها الحلَق والعقود لإحاطة رقاب أفراد الفريق الخاسر بها، ثمّ تنتهي السهرة بإلقاءِ والدي لقصائدِهِ، أو سرده لقصصِهِ الممتِعة التي تُضفي جوّاً من المرح والبهجة على مشاعر الحاضرين.
وأمّا في الصباح، كان الناس يرمون برماد المدفأة على سطوحِ الثلج المتراكمة في الخارج، فيختلط الرمادُ بالثلج، فيكوِّنان مزيجاً غير محبَّب المنظر، لكنّهُ كان جاذِباً لنا عند خروجِنا من المدرسة، فنتّجهُ نحوه، ونبدأ بتشكيل مجسَّماتٍ لشخصيّاتٍ مختلِفة، واضعين على رؤوسِها قبّعاتنا، ومعاطفنا، حسبَ تصوّرنا لتأكيد الشخصيّة المقصودة، عدا عن تبادلِنا الضرب لبعضِنا، بكرات الثلج التي نكوِّرها بأيدينا في خِفّةٍ تتناهبها سرعةُ التكوير، ممّا كان يجعل من ملابسِنا متّسِخة، وما إن نصل إلى البيت حتّى يأخذ كلُّ واحدٍ منّا نصيبَه من شدِّ الإذن، غيرَ أنّ السعادةَ كانت تطغي على كلِّ شيء.
لم يكن هنالك من تصنّعٍ أو رياء، كانت الناسُ تعيش على الطبيعة، وكانت البهجةُ تطغى على الجميع، والسعادةُ تلفّ القلوبَ والبيوت، وسماءُ القرية مضاءة بالمودّةِ والرحمة والوفاء مداعِبَةً أحلامَهم البسيطة.
أين نحن اليوم من ذلك كلّه، لقد خسرنا الكثير، باندثار العادات القديمة الجميلة، فاندثرَ معها كلُّ شيءٍ جميل، وأصبحَ الناس يمشون على (الريمونت كونترول) مسيَّرين، لامُخَيَّرين.
Leave a Reply