وليد مرمر
كلنا يذكر أن حركة الاحتجاجات الأخيرة في لبنان جاءت بشكل عفوي ونتيجة لفرض حكومة الحريري ووزير اتصالات «المستقبل» ضرائب جديدة وخصوصاً على تطبيق الـ«واتساب». وبإمكاننا القول إن المناطق ذات الأغلبية الشيعية كانت سباقة إلى التظاهر والاحتجاج كيلا نقول أن شعلة الانتفاضة أساسا انطلقت منها. ومن لديه شك فليرجع إلى أرشيف الأحداث وسيرى أن «المشرفية» و«بعلبك» وغيرها من المناطق ذات اللون المذهبي الطاغي كانت في مقدمة الحراك. إن الطائفة الشيعية لم تكن مشاركاً فعالاً في الاحتجاجات فحسب، بل إنها قد تكون الرحم الذي انطلقت منه شرارة «ثورة الغضب».
هذا كان في الأيام الأولى. أي قبل خطف «الثورة» وحرف بوصلتها لخدمة المشاريع والأجندات المشبوهة.
وتحولت الثورة بعد الأسبوع الأول إلى وحش يقض مضاجع اللبنانيين. فامتلأت الشاشات بالشتائم الرخيصة المغرضة التي لم توفّر أو توقّر أحداً. شتائم حملت على لافتات، او تلفظ بها زقاقيون عبر شاشات التلفزة. ثم تم التركيز على شعار «كلن يعني كلن»، الأشهر في الحراك، وهي كلمة باطل يراد بها باطل، لتسوية «الآدمي بالفاسد» حتى «يروح الصالح بعزى الطالح».
هكذا ساوت «الثورة» بين من نخر تاريخه الفساد وبين من قدم في سبيل الوطن، وما زال يقدم، الغالي والرخيص وبذل الأنفس والمهج لأجل بقاء لبنان.
وفي الأيام الأولى، ونتيجة لضغط الشارع، أقر مجلس الوزراء ورقة إصلاحية قرأها الحريري بتلعثم، وهي كانت أقرب ما تكون إلى «الورقة المعجزة» لأنها كانت –لو نفذت– ستسد العجز في الموازنة العامة من أموال مصرف لبنان والبنوك الخاصة، من دون أية زيادة ضريبية على المواطنين. هي ورقة، أقل ما يقال فيها إنها طوق نجاة للدولة والمواطن، وهي كانت كفيلة بتخفيض نسبة خدمة الدين لعام 2020 إلى النصف! ناهيك عن إشراك القطاع الخاص، وإلغاء بعض الوزارات والإدارات والصناديق، وتفعيل بعض البرامج الاجتماعية كمساعدة العائلات الأشد فقراً، وقانون جديد للتقاعد، وخفض رواتب الوزراء والنواب إلى النصف، وتأمين الكهرباء في النصف الثاني من 2020 مع تسديد عجز شركة الكهرباء بحلول 2021 إضافة لمشروع استعادة الأموال المنهوبة وتعزيز الشفافية والمساءلة ومكافحة الفساد!
باختصار، لقد احتوت الورقة على بنود أقل ما يقال فيها أنها سوريالية حالمة! وهنا يبرز السؤال التالي؟ لو كانت أسباب الحراك فعلاً هي الإصلاح فلماذا لم ينتدب «الثائرون» لجنة تعطي الحكومة ستة أشهر مثلاً ثم يصار إلى تقييم مدى جديتها في تنفيذ الورقة ثم يؤخذ على ضوئه قرار العودة إلى الشارع من عدمه؟
بل جاء رد الحراك بالرفض المطلق للورقة المعجزة، همجياً وغوغائياً وغير مبرر!
ثم جاء الظهور التلفزيوني للرئيس عون بكل ما حمله من إيجابية، داعياً الحراك الى انتداب ممثلين له للاجتماع به من أجل إيجاد الحلول لهواجسهم.
حتى السفير الأميركي السابق جيفري فيلتمان، انتقد في إحاطته للكونغرس، استراتيجية الحراك بعدم انتداب ممثلين له وبعدم وجود خطط بديلة لديه غامزاً أنه إنما يدعو إلى الفوضى والعدمية لا غير!
كانت ردة فعل الشارع بعد كلمة الرئيس عون، أكثر همجية وغوغائية من رده على الورقة الإصلاحية. فهذه المرة قرر «تيار المستقبل» ركوب الحراك وخطفه لتنفيذ أجندته، فعمد إلى تحريك قواعده فانطلقت الحافلات من طرابلس ومناطق نفوذه محملة بالـ«الثوار» إلى محيط القصر الجمهوري وبذلك ضرب الحراك «المستقبلي» عصفورين بحجر واحد: لم يعد سعد الحريري محط تصويب الشارع ذلك أنه كان قد قدم استقالته، وثانيا تم حرق ورقة محمد الصفدي لتشكيل الحكومة بتأكيد الشارع السني بأن الحريري هو ممثلنا الوحيد!
في الأسابيع اللاحقة وبعدما خفت وميض الحراك نتيجة فوضويته من جهة، والوعي الشعبي والتحصين السياسي من جهة أخرى، عمد قراصنة «الثورة» إلى استراتيجية مقيتة وإجرامية وضد كل شرعات حقوق الإنسان، وهي قطع الطرقات وشل حركة التنقل وهو حق محفوظ في كل المواثيق الدولية للحقوق المدنية. لقد أدت هذه الخطوات التي أرهبت المواطنين وذكرتهم بالحرب الأهلية، إلى تعرية جهل «الثوار» من آخر ورقة توت، وبذلك بدا يتجلى وجههم التخريبي الحقيقي الذي يريد جر البلاد إلى مواجهات لا تحمد عقباها.
لقد جاء دم الشهيدين حسين شلهوب وسناء الجندي ليعمد قراراً اتخد في أعلى أروقة القرار، وأعلمت به القوى الأمنية اللبنانية ومفاده أن «أعلموا زعران الثورة أننا لن نسمح بعد اليوم بإقفال الطرقات وخصوصاً طريق الجنوب وسنقوم بفتحها بالقوة من صيدا وحتى خلدة بقوة رجالنا وليتحمل الكل مسؤولياته. وهنا أبلغ الجيش اللبناني بلطجية الحراك جدية القرار «الشيعي»، لقد حاول أحمد الأسير فعل أقل من هذا عندما كان يقوم بإقفال دوار واحد في صيدا، وحصل له ما حصل! فليتعظ أولو الألباب! عندها «قررت» «الثورة» الرضوخ صاغرة لهذا القرار!
كل هذه الأحداث جعلت الحزبين الشيعيين يتوجسان خيفة من هذا الحراك الذي أصبح مطية للأحزاب الأكثر فساداً وإجراماً في تاريخ لبنان، إضافة للمنظمات غير الحكومية، وما أدراك ما المنظمات غير الحكومية وكيف يتم استعمالها وتجييرها عبر الاحتجاجات المطلبية لتمرير المشاريع المشبوهة؟ ولنا في الثورات الملونة والربيع العربي أمثلة ناصعة عن تغلغل الاستخبارات العالمية في هذه المنظمات بالتمويل والإيديولوجيا. وهذه وثائق «ويكيليكس» حسبما نشرتها صحيفة «إندبندنت» في 18 نوفمبر 2019، تأتي لتؤكد بما لا يقبل الشك وقوف الحكومة الأميركية عبر مخابراتها إلى جانب ثورة 25 يناير التي أزاحت مبارك.
أنا شخصياً أذهلني من سنوات، أثناء تجولي في مجمع ضبية التجاري، منصة ترويجية لمؤسسة الوكالة الأميركية للتنمية «يو أس إيد»! ثم علمت لاحقاً أن المؤسسة تعطي مئات المنح الدراسية للطلاب لمتابعة دراساتهم في الجامعة الأميركية والجامعة اللبنانية الأميركية وجامعة هايكازيان. وتشترط الوكالة على الطلاب عدم ممارسة نشاط سياسي أو الاشتراك من قريب أو من بعيد، عملاً تطوعاً أو تدريباً، مع أية شركات أو أفراد يدعمون «الإرهاب». وغني عن القول أن مصطلح «الإرهاب» يتساوى بحسب المنظمة مع تعريف «المقاومة»! وتقوم الوكالة بدعم معظم المنظمات غير الحكومية التي هي في ظاهرها منظمات ذات طابع اجتماعي وفي باطنها أحصنة طروادة يتم من خلالها اختراق المجتمعات، خصوصاً تلك التي لم تطوّع بالحروب أو العقوبات الاقتصادية.
بالعودة إلى حراك لبنان، نلاحظ الطريقة الحضارية التي واجه فيها «الثنائي الشيعي» الحراك رغم علمهم مسبقاً بأنهم هم المستهدفون. فبعد مقتل الشهيدين حسين شلهوب وسناء الجندي في الجية كانت هناك ردة فعل عشوائية ضد خيم الحراك في صور. ولكن اقتصر الأمر على الخسائر المادية ثم رجع «الثوار» إلى خيمهم في صور وفي كفررمان وكأن شيئا لم يحصل. أي أنه رغم اقتناع البيئة الشيعية أن هذة الخيم ما هي إلى أحصنة طروادة تريد اختراق ما عجزت الحرب عنه إلا أنهم ما زالوا يحضنونها ويؤمنون لها حق التجمع وحق إبداء الرأي. وهذا ما يظهر شفافية وانضباطاً من الأعلى إلى القاعدة.
في المقابل، قامت بعض المجموعات التي تحمل أعلام «الثنائي الشيعي» بالتظاهر في عدة أمكنة مرددين «شيعة.. شيعة.. شيعة». وهو عمل لاقى انتقادات مراجع سياسية شيعية مثل نائب «حزب الله» الدكتور إبراهيم الموسوي إضافة إلى النائب جميل السيد. وهنا أود أن أعطي رأياً قد يكون صادماً لدعاة اللامذهبية والتقريب. إن هذا الشعار لم يكن فئوياً ولم يكن يدعو إلى المذهبية. بل لقد جاء كردة فعل من شباب يتيقن يوماً بعد يوم أنه مستهدف وجودياً كطائفة. ومعلوم في مبادئ السوسيولوجيا بأن استهداف فريق بعينه يؤدي إلى تقوقعه وتوحده دفاعاً عن وجوده. وهذا أمر مشروع ومفهوم ومبرر وطبيعي.
لقد شاهدت بأم العين في طريق الجديدة ذات مرة، عقب اغتيال اللواء وسام الحسن، شباباً يهتفون بغضب وحنق «أبو بكر، عمر، عثمان، علي… دم السني بيغلي غلي»!
ليس ما يحدث في لبنان ثورة. فالثورة هي إعصار يغير «الستاتس–كوو» وينقلب على قواعد اللعبة. والثورة عادةً تحركها الأيديولوجيا كالثورة الفرنسية والثورة البلشفية الروسية ضد الديكتاتوريات والإقطاع. لذلك فمصطلح الثورة في لبنان هو «سالب بانتفاء الموضوع» كما يقول الفقهاء. ففي الديمقراطيات ذات الأنظمة البرلمانية، الثورة تكون في صناديق الإقتراع، وكل ما عدا ذلك هو هراء ودعوة إلى الفوضى، بل هو انقلاب على نتائج الانتخابات والتي جرت في أعلى درجات الشفافية بتأكيد المراقبين الدوليين.
إن القانون الأخير الذي جرت على أساسه الانتخابات وفر الآلية للجميع للوصول إلى أروقة البرلمان. فقد فاز بأربعة مقاعد برلمانية نواب بالكاد حصلوا على مئات الأصوات، وهم النائب الكاثوليكي عن جزين سليم الخوري الذي نال 708 أصوات، والنائب عن مقعد الأقليات في بيروت الأولى أنطوان قسطنطين بانو بـ539 صوتاً، والنائب عن المقعد الشيعي في جبيل مصطفى علي الحسيني بـ259 صوتاً، والنائب عن الأرمن الأرثوذكس في زحلة ادي بوغوس دمرجيان الذي نال 77 صوتاً. إنه قانون لا يجاريه قانون في العالم من حيث توفير التمثيل للأقليات. ورغم ذلك فإن المجتمع المدني الذي يحاول الانقلاب على نتائج الانتخابات عبر الحراك المشبوه لم يفز إلا بمعقد وحيد في بيروت لبولا يعقوبيان… «تاف لاك» كما يقولون بالأنكليزية!
كان بالأحرى أن يصار إلى دراسة أسباب الهزيمة والعمل على تلافيها بدل محاولة الأخذ بالبلطجة والقرصنة بما عجز عن الفوز به في صناديق الاقتراع.
وبالعودة إلى التاريخ علّنا نستلهم منه العبر، نلاحظ أن عدداً كبيراً من صحابة النبي مدعوميون من سكان الأمصار المحيطة وخصوصاً من مصر والذين عانوا الأمرّين من حكم الخليفة الثالث قاموا بثورة عليه مطالبين بتغيير الولاة الظالمين وبالمساواة في توزيع الأموال وبمحاسبة الفاسدين من أقاربه الذين تولوا العديد من الأمصار وغيرها من المطالب المحقة. ولقد انتدب الإمام علي ابنيه الحسنين ليكونا في طليعة المدافعين عن الخليفة والذود عنه في المدينة.
ويروى أن الحسن بن علي أصيب بسهم وخضب الدم وجهه. ورغم صوابية الثورة فلقد رأى الإمام علي أن نتائجها سوف تستعمل بلا شك من معاوية لقلب الموازين والاستحواذ على السلطة، وهذا ما حصل! لقد كان دفاع الإمام هو عن الدولة وليس عن السلطة! وشتان بين الأمرين! ولقد لخص الإمام علي ما حصل حول مقتل عثمان بقولته الشهيرة: «آثر فأساء الإثرة (أي حكم فأساء الحكم) وجزعتم فأسأتم الجزع».
لقد أساء «الثوار» في لبنان الجزع وها هم عن قصد أو جهل يوطدون الطريق للمتربصين بلبنان الدوائر لتحقيق ما عجزوا عن تحقيقه عبر الوسائل الأخرى.
إيلينا بونوماريوفا، أستاذة العلوم السياسية في معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية وخبيرة الثورات الملونة تقول إن الهدف الأساسي للثورات الملونة يهدف إلى تغيير بعض الحكام واستبدال الشريحة السياسية الحالية وإبعاد النخبة التي لا تحظى بالرضا من قبل المخططين لهذه الثورات. ويتم ذلك عبر تغيير القيادة دون تغيير في أنظمة الحكم التي يتم الحفاظ عليها في جميع هذه الدول.
«أي باختصار الهدف هو استبعاد أشخاص محددين يتمتعون باستقلالية في المنظومة العالمية، أما البلدان المستهدفة فعادة ما تكون ذات مكانة استراتيجة وتتمتع بموارد طبيعية»!
وبالمقارنة، نلاحظ أن لبنان، هو بلد ذو مكانة استراتيجية مميزة وذو ثروة نفطية هائلة ويتبوأ «التيار الوطني الحر» و«حزب الله» وشركائهما فيه أعلى مراتب السلطة حالياً… ولذلك نشهد منذ أسابيع «ثورة ملونة» تهدف إلى الانقلاب على نتائج الانتخابات الديمقراطية وتشكيل حكومة جديدة على أهواء الخارج، فالحراك لا يدعو من قريب أو بعيد إلى تغيير النظام أو حتى تعديله أو المس بالدستور والأعراف الطائفية رغم ما فيها من علل. أي أنه في الحقيقة ليس إلا حراكاً ضمن قواعد اللعبة، وليس ثورة عليها!
Leave a Reply