التقيه مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع، دون موعد مسبق. فأنا ومصطفى صديقان بـ”الصدفة” التي تحولت إلى قاعدة أسبوعية. كلانا يحضر حانة القهوة و”الدونات” لممارسة عادة التدخين التي لم نستطع خلعها كل لأسبابه (كان هذا قبل قانون الحظر الأخير). فمصطفى يجد فيها سلواه في رتابة حياة المدينة التي نزل فيها قبل نحو ثلاثة عقود، وأنا أستعين بها على الكتابة التي ترفض الانصياع لرغبتي دون تدخلها.
غالبا ما يحضر مصطفى ويجدني غارقا في التأمل والتركيز على مقالة قيد الإنشاء، فيقوم بتفقد فنجان القهوة أمامي ويعرض علي بلطف إعادة ملئه.
ورغم ضغط الوقت، أبادر غالبا إلى “مد حديث” مع مصطفى الذي يحضر محملا بكم كبير من الأسئلة والانطباعات عن القضايا، السياسية منها والاقتصادية والصحية. وفي خلال السنوات القليلة الماضية لم نترك أنا ومصطفى مسألة لبنانية أو عربية أو عالمية إلا وتطرقنا إليها!
ومصطفى الذي لا يختلف عن أقرانه من اللبنانيين والعرب من حيث سعيه الى تقديم “تحليلات” للأوضاع الراهنة يتميز عنهم بفطرة في الحكم على الأمور ونقاء في مقاربتها والنظر فيها يقربان من حافة الحكمة.
منذ مدة قصيرة توجه إلي مصطفى بسؤال شعرت أنه غير “بريء”: “قرأت على غلاف “صدى الوطن” دعوة إلى الاستثمار في الثقافة” قال مصطفى، وصمت بانتظار تعليق مني. قلت: “نعم. ورد ذلك في معرض احتفال لصالح الحركة الثقافية في لبنان أثناء زيارة رئيسها للمدينة”.
ولم يلبث حديث العائلة أن حضر. سألته عن سير الأمور الدراسية لولديه اللذين يدرسان الطب في جامعتين مرموقتين. اعتدل مصطفى في مقعده وراح يسرد لي كيف تطورت حياة نجليه الأوحدين، منذ أن كان يصحبهما وهما طفلان إلى بيع “الآيس كريم” في شوارع المدينة. “لم أفكر يومها أنهما سيحققان هذا النجاح” قال مصطفى، ثم أردف متنهدا: “كان عمرهما سنتان وثلاث سنوات عندما أصابني المرض قبل نحو 20 عاما”.
قطع حبل حديث مصطفى اتصال هاتفي: “إي يا حبيبي كيفك؟” خاطب مصطفى المتحدث على الطرف الآخر، كان المتحدث أحد نجليه الاثنين. وأبلغني مصطفى وهو يحاول الإمساك عن الضحك: هذا ابني يحاول بيع صورة لي وله التقطت لنا في قلعة صيدا البحرية خلال زيارتنا الأخيرة إلى لبنان، في أحد المعارض الجامعية.
ثم واصل مصطفى الضحك من هذه المبادرة “الغريبة” التي قام بها نجله، وتساءل أمامه من يا ترى سوف يكون مهتما بشراء هذه الصورة؟
لكن نجله “طمأنه” بأنه سيكون قادراً على بيعها بمئة دولار في أقل تقدير!
أحسست وأنا استمع إلى مصطفى بأن تلك الصورة أثمن بكثير من تقديرات نجله، وتوجهت إليه بعبارة حملت الكثير من الجزم: “أتدري يا مصطفى؟ أنت واحد من أغنى أغنياء الجالية”!
رمقني مصطفى بنظرة مستغربة وافتر فمه عن ابتسامة رضى، لكنه بدا متلهفا للإنصات إلى تفسير لهذه “التهمة” التي سقتها أمامه. فشرحت: من الناس من يملكون الملايين، شركات أو أرصدة، وتجارة وعقارات لكنها قابلة للتبديد إذا لم يحمها عقل ويحصنها تواضع. ثروتك أنت ليست في جيبك إنها في رأسي ولديك. وسقت له حكمة مفادها أن ثروة الجيب تبقى عرضة لمد الأيدي إليها وتبديدها أما ثروة الدماغ فمن يقدر على الوصول اليها وتبذيرها؟
التمعت عينا مصطفى ببريق من أمل تخالطه رهبة من هذه “المكانة” التي أسبغتها عليه. ثم عاجلني بسؤال قطعته ضحكة ساخرة “يعني.. أنا قولك عم استثمر في الثقافة”؟!
هززت رأسي بالإيجاب فأردف مازحا: دخلك قديش السهم في “إن وأخواتها”؟!.
وراح مصطفى يستعرض أمامي ما علق في ذاكرته من الدراسة الابتدائية حول الأحرف المشبهة بالفعل والأفعال الناقصة. ففكرت: مصطفى لم يأت “بفعل ناقص” في غربته المديدة.
عمل لسنوات طويلة في مصنع للسيارات، ثم قاوم مرضا نادرا أصابه في عز شبابه، وخرج منه منتصرا وها هو اليوم على مشارف الستين من العمر، وهو أب لولدين سيكونان طبيبين مرموقين.
سألت مصطفى: كم من الوقت باق على تخرج المحروسين؟
فأخذ يشرح لي بلهجة فيها من “الالتباس” أكثر مما تحمل من الوضوح، فمصطفى لا يرهق نفسه بمتابعة واتقان تفاصيل دراسة نجليه. لكنه يعرف أن أحدهما يجول في هذه الآونة على مستشفيات متعددة في مختلف أنحاء أميركا، ويتدرب على أيدي جراحين كبار.
لملمت أوراقي وهممت بالمغادرة وأنا أسير انطباع طاغٍ بأن مجالسة مصطفى لا تقل شأناً عن الاستثمار في “الثقافة”.
ع. ب.
Leave a Reply