وفيقة إسماعيل
لم تمضِ أيام قليلة على بدء الحرب الروسية الأوكرانية حتى أصبحت مأساةَ القرن بنظر الغرب، الذي تداعت وسائل إعلامه وهيئاته المدنية والحقوقية والإغاثية العالمية وحتى الرياضية، إلى إدانة الغزو الروسي، وتوحدت الأصوات دعماً ومساندة لحق الشعب الأوكراني في الدفاع عن نفسه، وهو الحق ذاته الذي يتحول إلى مسألةً حمّالة أوجه إذا ما كان المعنيون بالأمر عرباً أو مسلمين، كما شهدنا ومانزال نشهد في فلسطين والعراق وسوريا واليمن…
بسرعة حضرت اللغة الغربية الصارمة والعقوبات الفورية والإدانات الصريحة للغزو الروسي منذ يومه الأول بل ومنذ ساعاته الأولى، وتحوّل العالم كله إلى خلية نحل، وفي مقدمته محكمة الجنايات الدولية ومجلس الأمن. «الشعب الأوكراني يشبهنا وهذا ما يسبّب لنا صدمة، فالحرب لم تعد تستهدف الشعوب البعيدة الفقيرة»! هذا ما قالته سامنتا باور سفيرة واشنطن في الأمم المتحدة، والتي تقود عملية الإغاثة الأميركية للشعب الأوكراني! هذا التصريح غيض من فيض من التصريحات الأميركية والغربية المقيتة التي اندفعت للتضامن مع أوكرانيا سياسياً وإنسانياً وحتى عسكرياً.
تحشيد وتجييش إعلامي غير مسبوقين تشهدهما الساحة الغربية في وجه نتائج العملية العسكرية التي تشنها روسيا ضد أوكرانيا، على الصعيد الإنساني بالذات. فسياسة الكيل بمكيالين ليست جديدة على الغرب، فقد تلمستها بلاد العرب والمسلمين قولاً وفعلاً منذ مئات السنين، وهي التي عانت أبشع أنواع الظلم والاضطهاد والاحتلال، وصولاً إلى شن الحروب عليها وإثارة الفتن بين أبنائها.
لسنا هنا في معرض الدفاع عن روسيا أو تجريمها، بل كل ما في الأمر أننا كعرب تستوقفنا بشدة، هذه الموجة من «الحميّة والمروءة» الغربية العارمة تجاه الأوكرانيين! هي طبعاً مطلوبة وضرورية لشعب يتعرّض لخطر الموت واللجوء بسبب الحرب الدائرة على أرضه، وتأتي في سياق التضامن والتعاطف والدعم الإنساني، لكنها من دون شك تكشف الوجه العنصري القبيح لتلك الدول «الطيبة» التي تتنافس في تقديم الدعم بأنواعه كافة، والقبح كل القبح يتجلى في سياسة التفريق والتمييز التي تعتمدها.
مع أولى ساعات الحرب بل حتى ما قبلها، أخذ الأميركيون يتحدثون عن «المأساة الأوكرانية» قبل أن تبدأ! نظرة خاطفة على الماضي القريب من الأيام، تظهر جليّاً أن بصمات الغرب الإجرامية ماثلة في أغلبية الأزمات التي تعيشها الدول العربية والإسلامية وحتى الأفريقية، ومأساة فلسطين تشهد على انحيازه الفاضح منذ أربعينيات القرن الماضي، وهي الأرض العربية الخالصة التي سُلبت من أصحابها ومنحها الغرب لغيرهم، مهيِّئاً كل الظروف ومعبّداً الطريق بكل ما يلزم للمحتل الجديد، وصولاً إلى الإسهام في طرد أهلها من خلال سياسة التطهير العرقي التي ما زالت السمة الأبرز لدولة الاحتلال!
أما احتلال أفغانستان وقتل عشرات الآلاف من المدنيين وتدمير بنيتها التحتية وما شهدته من مجازر وبلوغ بعض المناطق فيها حد المجاعة، فحديث آخر!
العراق بدوره، شهد أسوأ أنواع الحصار إثر حرب الخليج الأولى على مدى سنوات طويلة، قبل أن تجتاحه وتحتله القوات الأميركية عام 2003 وهو ما أدى إلى موت مئات آلاف العراقيين، ومن الأطفال تحديداً، بسببب الجوع وسوء التغذية. وإبان الاحتلال الأميركي –الذي انتهى صورياً– قُتل الآلاف من المدنيين «عن طريق الخطأ» بنيران الأميركيين أنفسهم وباعترافهم، فيما لا يزال العراق ينزف حتى اليوم دون أن تقوم له دولة قادرة بسبب تبعات الاحتلال. ولا بد من التوقف ملياً عند الدور الأميركي في دفع الرئيس العراقي السابق صدام حسين إلى مهاجمة إيران وشنّ حرب عليها استمرت ثماني سنوات وأودت بحياة مئات الآلاف من الشعبين العراقي والإيراني، خدمة لمصالح الغرب الذي كان يرغب في تدمير دولتين إسلاميتين قويتين ونهب ثرواتهما.
واليوم، ها هي سوريا تشهد حصاراً خانقاً بفعل «قانون قيصر» الذي فرضه الأميركيون لدفع الاقتصاد السوري إلى الانهيار بعد صمود الدولة لعشر سنوات من الحرب الدموية التي لم تبقِ ولم تذر، ولم يسلم منها لا الحجر ولا البشر، فيما لايزال السعي الأميركي مستمراً إلى تقسيمها من خلال دعم الجماعات المتمردة واستيراد الإرهابيين من كل دول العالم لسرقة النفط السوري… وكل ذلك بهدف إسقاط الدولة الممانعة التي رفضت الإذعان للإملاءات الأميركية ولا تزال تحمل راية المقاومة.
فالحرب السورية، بحسب صناع القرار في الغرب، مبررة وضرورية درءاً للخطر الذي تمثله على «الطفلة المدللة» إسرائيل، والتي لا تتوقف الولايات المتحدة عن حمايتها في مختلف الهيئات والمنظمات الدولية وتمنع إدانتها مستخدمة حق النقض، رغم كل ما ارتكبته من مجازر في فلسطين ولبنان.
أما الجرح العربي النازف منذ سبع سنوات، في اليمن، فلم يكن موت مئات الآلاف من المدنيين فيه، ليحرك ساكناً في عواصم الغرب، سوى لابتزاز وضيع للسعودية. فلا الجوع ولا تدمير المدارس والمستشفيات والبنية التحتية، ولا انتشار الأوبئة والأمراض بسبب نفاد الأدوية والحصار المتواصل الذي لم يوفر أحداً من تبعاته، كان كافياً لإثارة حميّة الغرب وتعاطفه.
اليمن الجريح، الذي وفقاً لكل المنظمات الإنسانية والإغاثية، يعيش شعبه الأزمة الإنسانية الأكبر في التاريخ المعاصر، ففي كل دقيقة وربع يموت طفل يمني بسبب الجوع أو سوء التغذية، وهذا طبعاً أمر غير موجود في أوكرانيا اليوم. فقد سعى الغرب منذ بداية الحرب إلى توفير كل المستلزمات التي يمكن أن يحتاجها اللاجئون الأوكرانيون الذين فتحت لهم أبواب أوروبا ورصدت لهم المليارات، فيما لا تزال مآسي اللاجئين العرب والمسلمين والأفارقة الذين تدفقوا إلى القارة العجوز هرباً من الويلات التي افتعلها الغرب في بلدانهم، ماثلة أمامنا.
فاللاجئون غير البيض ليسوا محل ترحيب، وقد تركوا يموتون غرقاً في البحار أو تجمداً على حدود بعض الدول.
قبل أيام قليلة، دُفن مهاجران يمنيان، كانا من بين عشراتٍ يمكثون في إحدى الغابات المجاورة للحدود البولندية بسبب البرد القارس، حيث غطتهم الثلوج ولم يجدوا ما يقيهم البرد، ولا حتى ماءً للشرب، وقد طاردهم حرس الحدود البولندية وضربوهم وأبعدوهم عن الحدود بعد أن كانوا قد تجاوزوها وأعادوهم إلى الغابات، حيث كانوا يواجهون خطر الموت المحتم!
الكل يرى ويشاهد بأم العين، التسهيلات التي تقدم للاجئين الأوكرانيين من الألف إلى الياء، كيف لا، وهم ذوو بشرة بيضاء وشعر أشقر وعيون زرق ولديهم حسابات في «إنستغرام» و«نتفليكس» في بيوتهم! «إنهم يشبهونكم تماماً، عليكم التضامن معهم على الصعد كافة وفوراً، هم ليسوا شعباً فقيراً أو بعيداً»! وفقاً لأحد المراسلين.
لم يتوانَ الإعلام الغربي عن إظهار عنصريته بكل وقاحة وصلافة، والأمثلة كثيرة وشملت أغلبية المحطات الغربية، فعلى سبيل المثال لا الحصر، علّق أحد الإعلاميين الغربيين في كبرى القنوات البريطانية بالقول: «من المؤسف بالنسبة إلي أن أرى أوروبيين ذوي شعر أشقر وعيون زرق يُقتلون كل يوم بالصواريخ والقذائف». بهذه اللغة البغيضة أشار هذا الإعلامي إلى الضحايا الأوكرانيين الذين سقطوا بالقصف الروسي، منسجماً مع المنطق نفسه الذي يسوقه المجتمع الدولي وكل دول الغرب بلا استثناء!
هي مواقف عفوية حصلت على الهواء مباشرة، ما يعني عدم القدرة على التراجع عنها، فيما لو كانت خضعت للتصفية والمونتاج لكانت حُجبت عنا. فقد عبّر هؤلاء المراسلون والقادة السياسيون عن آرائهم بكل عفوية وأريحية نصرةً «للأوكرانيين المظلومين»! وهذا إن دلّ على شيء، فإنما يدلّ على نظرة الأوروبيين، والغرب عامة، للشعوب العربية والإسلامية بأنهم بشر أقل رتبة، فهم مازالوا يعيشون في الخيام ولم يكتشفوا ورق الحمام.
حتى في خضم الحرب الروسية على أوكرانيا، لا مجال للمقارنة بين ما يتعرض له الأوكرانيون، وما يتعرض له المدنيون في اليمن في الوقت نفسه، أو ما كان يتعرض له أبناء سوريا على أيدي الجماعات التكفيرية التي كان يدعمها الغرب، أو العراق الذي كانت حفلات مفرقعات القصف الأميركي لبغداد إبان غزو 2003 تضيء السماء وسهرات التلفزيونات الأميركية، وما كان سقوط ضحايا من المدنيين، سوى «أضرار جانبية». فالحصار والقتل والمجازر والتشريد ثم الإذلال والعنصرية تجاه اللاجئين، أمور مقبولة إذا كان الضحية عربياً أما إذا كان أوروبياً، فعلى العالم أن ينشغل عن نفسه في ذرف الدموع وتضميد الجراح ومد يد العون والتظاهر بالأخلاق والإنسانية!
لعقود طويلة بقي الغرب يصدّع رؤوسنا بالعدالة الاجتماعية والمساواة وحقوق الإنسان والحريات. واليوم، ولمرة جديدة، وبكل وضوح، تنكشف الأكذوبة ويسقط القناع على شاشة التلفزيون ومباشرة على الهواء.
Leave a Reply