كمال ذبيان – «صدى الوطن»
ليست المرة الأولى التي يهتزّ أو يسقط اتفاق أو تفاهم بين طرفين حزبيين أو سياسيين في لبنان، وهو ما كان متوقعاً أن يحصل بين «التيار الوطني الحر» برئاسة الوزير جبران باسيل وبين «القوات اللبنانية» برئاسة سمير جعجع، لأن المصلحة السياسية الآنية لكلّ منهما هي التي فرضت المصالحة المؤقتة بينهما.
حرب الإلغاء
فما بين «القوات اللبنانية» والعونيين، قبل أن يصبحوا تياراً حزبياً، «حرب إلغاء» شرسة، شنّها قائد الجيش آنذاك الجنرال ميشال عون، الذي أصبح رئيساً لحكومة عسكرية مع انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميّل في 23 أيلول (سبتمبر) 1988، فخاض الرئيس العسكري للحكومة معركة استعادة الشرعية من الميليشيات التي كانت تسيطر على مؤسسات الدولة ومرافقها ومرافئها، فاصطدم بالحزب التقدمي الاشتراكي الذي كان يقيم «إدارة مدنية» في الجبل، و«القوات اللبنانية» التي أنشأت «كانتوناً مسيحياً»، فسمى حربه مع الاشتراكيين وحلفائهم من قوى وطنية وجيش سوري بـ «حرب التحرير»، أما حربه على «القوات اللبنانية» فسماها «حرب الإلغاء»، التي شكلت أقسى الصراعات داخل «المجتمع المسيحي»، وفق توصيف اليمين الانعزالي إبان الحرب الأهلية، ووفق تعبير الرئيس بشير الجميّل الذي رفع شعار «أمن المجتمع المسيحي فوق كل اعتبار».
هذه الحرب الإلغائية، بين الجيش اللبناني بقيادة عون، و«القوات اللبنانية» بقيادة جعج، تركت شرخاً كبيراً داخل «المنطقة الشرقية»، التي أصابها دمار هائل، وطالتها أكثف عملية تهجير، في حين نجح عون في تكوين حيثية شعبية بعد إضعاف نفوذ الميليشيات وتخليص المجتمع من «خوّاتها»، فتحلّق المسيحيون حول شعاراته، باستعادة شرعية الدولة وطرد «الاحتلال السوري» من لبنان.
من الطائف إلى معراب
أسفرت الحرب الأهلية عن إضعاف الدور المسيحي في السلطة، بعد نفي عون وتهجير أمين الجميّل من قبل جعجع نفسه قبل أن يسجن، فتبلورت توازنات الحكم الجديدة في لبنان عبر اتفاق الطائف بالحد من صلاحيات رئيس الجمهورية في الدستور، ثم بغياب التمثيل المسيحي الحقيقي في الدولة بسبب مقاطعة الانتخابات النيابية عام 1992، وصولاً إلى رفض «القوات اللبنانية» في مواصلة تغطية اتفاق الطائف المدعوم أميركياً وسعودياً، لأن حصتها في السلطة لم تكن على حجم ما قدّمته في الحرب، فكان خروجها على التسوية ليدخل رئيسها جعجع إلى السجن، بفتح تاريخه الدموي في أثناء الحرب، ولم يخرج منه، إلا بعد الانسحاب السوري من لبنان، وعودة عون الذي بدأ استعداداته لمعركة رئاسة الجمهورية، بتفاهم مع «حزب الله»، وسعى إلى آخر مع الرئيس سعد الحريري، فلم يوفق، كما لم تنفع زيارته إلى جعجع في سجنه بعد عودته من باريس، بحصول تقارب، فابتعدت عنه رئاسة الجمهورية عام 2008، ليحين موعدها في نهاية 2016، بعد اتفاق مع الرئيس الحريري وتفاهم مع «القوات اللبنانية» في معراب، أنهى معها مرحلة الصراع التاريخي، باسم المصالحة، فتم انتخاب عون رئيساً للبلاد.
المصلحة أو المصالحة
المصالحة بين «القوات اللبنانية» و«التيار الوطني الحر»، قامت أساساً على المصلحة المشتركة، إذ كان يصعب على جعجع أن يرى رئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية في قصر بعبدا، وما يرمز إليه وجود رئيس مسيحي من زغرتا في شمال لبنان، فكانت مصلحة جعجع بوصول عون إلى سدة الرئاسة بعد أن ضاقت الخيارات الأخرى، فأسقط الحريري خيار فرنجية المدعوم من الرئيس نبيه برّي ووليد جنبلاط، لكنه لم يلقَ تأييد «حزب الله» الذي ساند عون كمرشح أول وفرنجية كمرشح ثانٍ.
فالمصلحة التي قرّبت بين جعجع وعون، كأساس لمصالحة حقيقية وفعلية بينهما، أرست تفاهماً على تقاسم الطرفين، المقاعد النيابية والوزارية والوظائف المسيحية في الدولة مناصفةً، لاسيما في وظائف الفئة الأولى، إلا أنه وبعد انتخاب عون رئيساً، ظهر أول نقض لاتفاق معراب في تشكيل الحكومة التي لم تحصل «القوات» فيها على حقيبة سيادية، وتم الاكتفاء بإعطائها منصب نائب رئيس الحكومة من حصة رئيس، فبدأ التفاهم يهتزّ ويتحدّث «القواتيون» عن خدعة وقعوا فيها، بانتخاب عون، وبدأت نُذر سقوط المصالحة تلوح بالأفق، بالرغم من محاولات نفي ذلك من الطرفين. إلا أن الوقائع والتطورات كانت تشي بإشارات سلبية، من خلال صدامات تحصل بينهما لاسيما في انتخابات الجامعات والنقابات، حيث يحصل أي تحالف بينهما على عكس تجارب سابقة.
وراثة عون
بدأت «القوات اللبنانية» تشعر بأن «حرب إلغاء جديدة»، تخاض ضدها، وبطلها هذه المرة رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، الذي وضعه عون في هذا الموقع دون انتخابات، فأغضب قيادات في تياره خرجوا متمردين ومعارضين. فحسم عون وراثته السياسية لصالح صهره باسيل، وأهمل صهره الثاني العميد شامل روكز الذي ورث مقعد عون النيابي في كسروان، دون الرئاسة، التي فتح باسيل معركتها مبكراً –أو تمّ فتحها ضده من منافسيه– وهو ما كشفه عون بقوله إن كل الحملات ضد باسيل سببها رئاسة الجمهورية.
وجاء تصالح جعجع وفرنجية في إطار المصلحة المشتركة بالوقوف بوجه باسيل الذي بدأ يعدّ العدّة لتزعّم التمثيل المسيحي عملاً بنظرية «الأقوى مسيحياً»، فأخرج «القوات اللبنانية» من التحالف مع «التيار الوطني الحر» في الانتخابات النيابية، والتي جاءت لصالح حزب جعجع عددياً بزيادة رصيده من النواب من 8 إلى 15 عضواً، كما أقفل باسيل الطريق أمام «القوات» في تشكيل الحكومة، مستحوذاً على الحقائب السيادية والخدماتية، لتقتصر حصة القواتيين على نائب رئيس للحكومة (دون حقيبة)، وثلاث وزارات هي الشؤون الاجتماعية والعمل إضافة إلى وزارة دولة، وهنا بدأ الشرخ بين «القوات» و«التيار» يتعمق في ظل الحديث عن انتهاء مفاعيل «تفاهم معراب» وبداية «حرب إلغاء» سياسية هذه المرة.
مواجهة مباشرة
لم تجدِ تصريحات الطرفين بعد الانتخابات حول استمرار المصالحة رغم الخلاف في الرأي، وأخذ الافتراق يزداد وضوحاً في ملف الكهرباء، والبواخر التي تولد الكهرباء، ومن ثم الموازنة، وعودة النازحين السوريين، إضافة إلى الموضوع الاستراتيجي وهو سلاح «حزب الله» الذي يتمسّك به «التيار الوطني الحر» كرادع لاسرائيل، وكذلك العلاقة مع سوريا…
وتراكمت الخلافات بين القواتيين والعونيين، وتحوّلت إلى سجالات علنية ونبشٍ لذكريات الحرب، فراح يسقط كل يوم حجر من هيكل «تفاهم معراب»، حتى أصبحت المواجهة مباشرة بين الجانبين، رغم محاولة القوات تحييد رئيس الجمهورية عن الصراع، والتركيز على باسيل الذي فتح أكثر من جبهة سياسية ضده، من «حركة أمل» إلى «تيار المستقبل» و«الحزب التقدمي الاشتراكي»، حتى كاد أن يفقد جميع حلفائه، ففي الوقت الذي يخوض فيه باسيل معركته ضد «القوات اللبنانية»، فإن علاقاته توترت مع «تيار المستقبل»، بسبب ما ذكره عن «السنّيّة السياسية»، لكنه عاد ورمّم العلاقات معه، مع التأكيد على بقاء الرئيس الحريري رئيساً للحكومة، بقوة التسوية الرئاسية.
التعيينات في الدولة
ما يجري بين «القوات» و«التيار الوطني الحر»، بات معلوماً على أنه صراع حول مَن يستحوذ على قطعة أكبر من كعكة السلطة، التي يريدها باسيل ممراً له إلى رئاسة الجمهورية بحسب خصومه، ومنهم جعجع الذي فتح النار عليه، واتّهمه بأنه يريد احتكار التعيينات في مؤسسات الدولة، للموظفين المسيحيين، دون الاعتراف بوجود قوى مسيحية أخرى، وهذا وضع قرّرت القوات التصدي له، إذ حصر باسيل تسمية الموظفين من الفئة الأولى فيه، دون تطبيق لتفاهم معراب الذي تعهد للقواتيين بنصفهم، لكنهم حصلوا على عدد قليل من تلك الوظائف، بما لا يتناسب مطلقاً مع ما حصل عليه التيار البرتقالي.
حرب الإلغاء السياسية هذه، بدأت ترخي بظلالها على لبنان، حيث أن كل طرف بات يفتّش عن أخطاء ارتكبها أو يرتكبها طرف آخر، ليشن حملة ضدّه، حتى أصبحت الساحة المسيحية عموماً والمارونية خصوصاً، مفتوحة على مصراعيها على وقع معركة رئاسة الجمهورية التي فُتحت باكراً جداً، وما حديث باسيل عن أن الموارنة باتوا أقوى في السلطة، مع وصول الرئيس المسيحي القوي إلى سدة الحكم، إلا تمهيد لتقديم نفسه كرئيس على خطى كميل شمعون بشير الجميّل.
Leave a Reply