لا على هامش الأزمة، بل في صميمها، يسجّل الفنانون السوريون، على عكس المثقفين والكتّاب، حضوراً ملفتاً، وفاقعاً، تتوفر فيه كل عناصر “الدراما”. وهذا الحضور يصلح من جهة لفهم سيطرة الثقافة البصرية ودورها المتصاعد في تأثيث أشكال الخطاب وتصديرها. ويصلح، من جهة ثانية، لدراسة الواقع السوري المستجد، وإدارك النظام السياسي في سوريا لدور الصورة وخطورته، عبر توظيف واستثمار نجوم الدراما التلفزيونية في تدعيم “خطاب” رسمي، فضحته (أو أربكته في أضيق الأحوال) الصورة المضادة. فالصور التي تلتقطها كاميرات الهواتف الرشيقة والمرنة، باتت اليوم تشكل عصب الخطاب المضاد الذي هو، بطبيعة الحال، خطاب مغاير، انقلابي، يتطلع الى التحرر من موقع “الاستقبال” والولاء، إلى موقع “البث” والندية.
بدون شك، ثمة ضوء أخضر، أو رغبة، معلنة أو خفية، في إدراج الممثلين السوريين في أتون الأزمة، وإسناد الأدوار لهم، فمنذ البداية، دأبت الشاشات السورية، الرسمية و ملحقاتها، على استضافة هؤلاء الممثلين، للاستفادة من شعبيتهم، وجماهيريتهم، في تدعيم الرواية الرسمية. ناهيك عن الضغوط الممارسة (فيما يتسرب من أخبار) على بعض “النجوم” التلفزيونيين، لدفعهم إلى تقديم استقالتهم من محطات فضائية صار لها دور مشهود فيما بات يسمى “الربيع العربي”، مثل قنوات “الجزيرة” و”العربية” والـ”بي بي سي” و”فرانس 24″.
وحرب الصور في سوريا، لم يعد يقتصر على إنتاج “الصورة” و”الصورة المضادة”، فكل صورة صارت تذهب إلى الصورة الأخرى، وتقوم بتحليلها، وتفكيكها، وكشف التزوير فيها، في حال وجوده. وحقيقة أن “الصورة” يمكن إخضاعها إلى “التحرير” (إعادة التشكيل، أو إدخال المؤثرات) يكشف عن المأزق النظري في قدرة الصورة على كشف الحقيقة، أو تمثيلها! تقول الآية: “وإذا قال ابراهيم لربه ربي أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي”. ولكن مشاهدة السوريين للصور هذه الأيام لا تطمئن قلوبهم، ولا تقودهم إلى “حقيقة” جامعة يلتقي عندها الجميع، ويتوافقون عليها.
في سوريا حرب تصورات. هذه حقيقة. والبيئة الفنية السورية وانقسام الممثلين والفنانين السوريين، بين صقور موالية، وحمائم معارضة، تكشف عن عمق الانشقاقات الحاصلة، أفقيا وعموديا، منذ بيان الفنانين الذي عرف باسم “نداء الحليب” وصولاً إلى بيانيْ السينمائيين المتضادين.
لقد انقسم الفنانون السوريون إلى مجموعتين متمايزتين. واحدة تؤيد النظام الحاكم وتدعم روايته، وأخرى تشجب الممارسات الأمنية والقمعية وأعمال القتل ضد المواطنين، أو الأقل تطرح أسئلة حول عمليات القتل، وأمنيات على السلطة بالعمل على إيقافها. وسلوك فناني المجموعة الأولى لا يقل عسفاً وضراوة عن سلوك السلطة الرسمية وأدواتها الأمنية من تخوين واتهام بالعمالة وضغف الانتماء الوطني..ألخ، فيما تبدو المجموعة الثانية أقل حيلة.. وقدرة على التعبير عن نفسها بشكل كامل.
ولكن حقيقة من يمثل هؤلاء الممثلون وهم يؤدون تلك “الأدوار”؟ وهل هم قادرون على تبديل شروط تلك اللعبة.. التي باتت رحاها تطحن الجميع؟
ومصدر الالتباس يتأتى من كون مفردة “التمثيل” نفسها تشتمل على معنيين مختلفين في اللغة العربية. ففعل “يمثل” يعني يرمز أو ينوب عن، أو يرمز لـ، ويعني أيضاً: يكذب، وأن يتظاهر بـ، أو يتحايل.
للفنان الراحل أحمد زكي تفسير طريف لنظرية التمثيل، فهو على خلاف الكثير من الفنانين، لا يحبذ تعبير “يجسد” للتحايل على معنى الكذب الذي تنطوي عليه مفردة التمثيل. وبرأي زكي أن التمثيل هو أصدق من الواقع، والسبب بسيط، فالممثل يعرف أنه يكذب حين يلعب دوراً، والجمهور يعرف أن الممثل يكذب وهو يلعب ذلك الدور، ولكن التواطؤ بين الممثل والجمهور، وقابلية المتفرج لقبول ذلك الكذب، تجعل من المشهد التمثيلي واقعاً صادقاً، لا.. بل أكثر صدقاً ونبلاً من أحداث الحياة الحقيقية، التي لا يعرف فيها الناس: من يكذب على من، ومن يمثل على من؟
Leave a Reply