تخوف من انفجار معارك مشابهة لـ”نهر البارد” بعد إمساك “فتح الإسلام” ببعضها
بيروت –
انتهت معارك مخيم نهر البارد قبل عامين، بين الجيش اللبناني وتنظيم “فتح الإسلام”، ولم تنته حرب المخيمات في لبنان، المفتوحة منذ العام 1969، مع تمركز منظمات وفصائل فلسطينية فيها، قررت خوض الكفاح المسلح، رداً على هزيمة الأنظمة العربية في حرب حزيران من العام 1967، وأدى الوجود الفلسطيني المسلح إلى نشوب صدامات بين منطق الدولة الذي يرفض وجود قوى مسلحة غير شرعية على الأرض، وبين منطق الثورة الذي أعلن شعار التحرير في وجه تقاعس الحكام العرب وجيوشهم، وقد لاقى هذا الشعار تأييداً من شعوب بعض الدول العربية التي رأت أن الطريق إلى فلسطين هو في فتح كل الجبهات أمام العمل الفدائي، فكانت معارك الأغوار في الأردن في العام 1968، ثم معارك كفرشوبا والهبارية وشبعا وكفرحمام في جنوب لبنان في العام 1969، حيث أقامت حركة “فتح” في هذه المنطقة التي سميت “فتح لاند”، وأنشأت فيها قواعد عسكرية كنقاط انطلاق باتجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة، وقد ردت “إسرائيل” على عمليات انطلقت من منطقة العرقوب، بقصف قرى ومدن في الجنوب وصولاً إلى بيروت ومطارها، الذي دمرت فيه 13 طائرة تابعة لطيران الشرق الأوسط بعملية كوماندوس إسرائيلية.
فمنذ نهاية الستينات، ولبنان في أزمة اسمها المخيمات الفلسطينية، بسبب وجود السلاح فيها، وعدم دخول السلطة إليها، بعد أن شرّع اتفاق القاهرة بين الحكومة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية في العام 1969، السلاح الفلسطيني للدفاع عن المخيمات، وكحق طبيعي للعودة إلى فلسطين، لكن هذا الاتفاق ألغي في العام 1985، مع خروج منظمة التحرير من بيروت، وانتقال الفصائل الفلسطينية إلى خارج لبنان، بعد الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982، ولم يعد لهذا السلاح أي طابع شرعي، لكن الاقتتال اللبناني-اللبناني، ووجود الاحتلال الإسرائيلي، والظروف العربية والإقليمية والدولية، التي كانت تحيط بالأزمة اللبنانية وتربطها بها، حالت دون إيجاد حل له، وقد حاولت السلطة اللبنانية بعد اتفاق الطائف، ووقف الحرب الأهلية، معالجة السلاح داخل المخيمات وخارجها، لكنها لم تتمكن وتم ربطه بحق العودة، وعلى أنه أداة ضغط على “إسرائيل” والمجتمع الدولي لرفض التوطين ومنع حصوله.
لقد بقي السلاح في المخيمات، ولم يعد يستخدم في عمليات ضد إسرائيل، انطلاقاً من لبنان، لأن المقاومة الوطنية اللبنانية والإسلامية، استطاعت أن تقوم بمهمة تحرير الأرض من الاحتلال الإسرائيلي، كما أن الفصائل الفلسطينية التي تشتت قياداتها خارج لبنان، لم تعد قادرة على التحرك. إضافة إلى أن الحضور العسكري لحركة “أمل” و”حزب الله” منعاً أي تحرك عسكري فلسطيني لأن أهل الجنوب رفضوا العودة إلى مرحلة ما قبل الاجتياح الإسرائيلي، وقد عانوا من ممارسات بعض العناصر الفلسطينية غير المنضبطة.
ونص اتفاق الطائف على حل الميليشيات اللبنانية، إلا ما هو مرتبط بمقاومة إسرائيل، أما السلاح الفلسطيني فكانت له خصوصيته، لكن تم تحجيم دور حركة “فتح” بعد قرار قياداتها الدخول في التسوية السلمية، ولم تعد ممسكة بالمخيمات، إذ ظهرت مع الانتفاضة الفلسطينية منظمات فلسطينية ذات توجه ديني كحركة “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، إضافة إلى وجود قوى التحالف الفلسطيني، والمكوّن من منظمات ضد سياسة منظمة التحرير الفلسطينية ونهج التسوية الذي ظهر في “اتفاق أوسلو”، وهي على تحالف مع سوريا وإيران وقوى وطنية وإسلامية لبنانية في طليعتها “حزب الله” الذي احتضن هذه القوى على قاعدة أن تحرير فلسطين لا بد آت، ويجب أن تبقى شعلة الكفاح المسلح مضاءة في كل مكان، وإن كانت حركة المقاومة في داخل فلسطين قد أثبتت فعاليتها ودورها، منذ انتفاضة الحجارة في العام 1987، إلى تطور العمل المقاوم باتجاه استخدام العبوات والاشتباك المسلح إلى الأجساد المتفجرة، وفرض هذا النهج المقاوم على إسرائيل الانسحاب من غزة، وزعزعة الأمن داخل الكيان الصهيوني، وحرّك مشاعر التأييد لانتفاضة الشعب الفلسطيني الذي عادت قضيته حية، بعدما كادت مفاوضات التسوية أن تنهيها ولم تعط نتائج تذكر سوى عودة قيادة منظمة التحرير برئاسة ياسر عرفات إلى الداخل لإقامة سلطة، هي أشبه بالعمل البلدي حيث اكتشف “أبو عمار” أن “اتفاق أوسلو” لم يسترجع له الأرض، التي عادت منقوصة السيادة، وخاضعة للاحتلال، الذي قضى على رئيس السلطة بدس السم له، في مقره في رام الله. بعد محاصرته وتدمير أجزاء كبيرة من المقاطعة وإعادة احتلال الضفة الغربية.
هكذا تطورت المسألة الفلسطينية وبقيت المخيمات في لبنان مشدودة إلى حركة السلطة الفلسطينية ونهجها التسووي، وإلى ما تقوم به القوى المناهضة لها، التي ركزت على استمرار المقاومة ورفض المساومة، فبرزت “حماس” مع ضمور حركة “فتح” التي تشظت الى أكثر من تنظيم انشق عنها منذ السبعينات وحتى اليوم، فكانت حركة “فتح-المجلس الثوري” بقيادة صبري البنا (أبو نضال) إلى حركة “فتح-الانتفاضة” بقيادة أبو موسى إلى مجموعة فتح برئاسة فاروق القدومي (أبو اللطف) وهو رئيس الدائرة السياسية في منظمة التحرير الفلسطينية الذي كان على يسار القيادة ورفض اتفاق “أوسلو” وكل أداء السلطة الفلسطينية، ولم يحضر المؤتمر الأخير لحركة “فتح” في بيت لحم وخرج من منظمة التحرير وقيادتها.
ففي غمرة ما جرى داخل “فتح” وهي المنظمة الأم لدى الشعب الفلسطيني الذي تعلق فيها وبرمزها ياسر عرفات، كان تنظيم فلسطيني يقوم في لبنان، ويحمل اسم “فتح الإسلام” ولد في أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان صيف 2006، إذ حضر شاكر العبسي إلى مخيم برج البراجنة، وكان معروفاً بانتمائه إلى “فتح اللجنة المركزية”، ثم التحاقه بـ”فتح الانتفاضة”، وبدأ بتجميع عناصر متخذاً من وجوده داخل “فتح-الانتفاضة” وعلاقاته مع قيادات فيها، منطلقاً ليستخدم مقراتها، تحت عنوان مقاومة إسرائيل، والعودة إلى الجنوب وتحديداً منطقة العرقوب، للانطلاق منها، باتجاه فلسطين المحتلة، وقد تزامن ظهور هذا التنظيم مع ما أعلنه أيمن الظواهري الرجل الثاني في تنظيم القاعدة، من أن لبنان تحوّل إلى “أرض جهاد” ضد القوات الصليبية (قوات الطوارئ الدولية) التي جاءت بموجب قرار دولي صادر عن مجلس الأمن يحمل الرقم 1701، لحماية إسرائيل وتأمين أمنها، ولا بد من القتال ضدها، وتنفيذ عمليات على عناصرها، لتترك الجنوب.
تحت هذا العنوان بدأ العبسي تجميع العناصر، وقد استولى على مقرات “فتح-الانتفاضة” في برج البراجنة وشاتيلا وعندما اكتشف أمر توجهه الديني، وتحدث البعض عن أن هناك من يدعم وجود تنظيم إسلامي سني أصولي، ليقف بوجه “حزب الله”، كما أن البعض تحدث عن أن قادة تنظيم “القاعدة” شعروا أن لديهم نقطة ضعف أمام الرأي العام الإسلامي والعربي والفلسطيني، هي عدم مقاومة إسرائيل، بل التركيز على القوى الصليبية وتنفيذ عمليات في دول غربية وأحياناً في دول إسلامية.
قررت “القاعدة” هذا التوجه، وأولت الأمر إلى العبسي الذي تحوّل إلى رجل متدين، ولم يكن بإمكانه أن يستمر في مخيم برج البراجنة المحاط بـ”حزب الله”، ولا في شاتيلا القريب من الضاحية الجنوبية، فنقل مقره إلى مخيم نهرالبارد، حيث المحيط السني، على أن يحوّل المنطقة إلى “إمارة إسلامية” وفق ما كشفت التحقيقات بعد اعتقال عناصر من تنظيم “فتح الإسلام” الذي استغل المناخ المذهبي في لبنان، واستفاد من وجود اتصالات بين تنظيمات إسلامية أصولية مثل “عصبة الأنصار” و”جند الله” في مخيم عين الحلوة وأطراف في السلطة، على قاعدة إقامة توازن عسكري مع “حزب الله” مما سهل للعبسي التحرك، فتمركز في مخيم البارد وانتشر في طرابلس حيث الجو الأصولي يتيح له التحرك، فيسيطر على بقعة كبيرة تمتد من عكار على الحدود مع سوريا حتى القلمون في الكورة مروراً بالضنية.
كان مخطط العبسي أن تكون له منطقة يعلن منها إمارته، وهو النموذج الذي حاولت قوى إسلامية تنفيذه منتصف الثمانينات ولم تتمكن، فقمعتها القوات السورية مع أحزاب وطنية وحررت طرابلس منها.
وفي الوقت الذي كان العبسي يركز “إمارته”، بدأ أيضاً بأعمال تخريب لنشر الفوضى، وإضعاف السلطة المركزية وقواها الأمنية، فنفذ عملية تفجير أمني في “باصَي” عين علق، لتوجيه الأنظار إلى المعارضة وسوريا، وحصول اقتتال بين أطراف السلطة والمعارضة (الكتائب والقومي في المتن الشمالي) بعد تبادل الاتهامات، حيث وجه “تيار المستقبل” مع حلفائه في “14 آذار” الاتهام باتجاه الحزب السوري القومي الاجتماعي، وتبين بعد أشهر أن من قام بالتفجير “فتح الإسلام”، التي اتهمت أيضاً باغتيال الوزير بيار الجميل، وكذلك النائب وليد عيدو ونجله، كما أثبتت التحقيقات أن هذا التنظيم مسؤول عن تفجيرات في عدد من المناطق اللبنانية في عالية والأشرفية وفردان وله علاقة مباشرة باستهداف القوات الدولية.
ومع مسلسل التفجيرات والاغتيالات التي تبين أن “فتح الإسلام” تقف وراء بعضها، إلا أن عملية قتل عناصر من الجيش اللبناني قرب مخيم البارد، بعد سطو على مصرف في الكورة واشتباكات مع قوى الأمن في طرابلس حرّكت الجيش الذي اضطر إلى الرد، لا سيما وأن ما ارتكب ضد عناصره كان مجزرة أودت بحوالي 21 عنصراً، وكانت الحرب على الإرهاب التي دامت حوالي ثلاثة أشهر تكبد الجيش فيها 171 شهيداً بين ضابط وجندي، ومئات الجرحى والمعوقين، وتدمير المخيم وتشريد أهله، وفرار العبسي الذي لم يعرف مكان وجوده حتى الآن، ومن هرّبه، سوى ما سربته مواقع الكترونية عن أنه معتقل في سوريا التي لم تعلق على الموضوع.
ومع انتهاء معارك البارد واختفاء العبسي واعتقال من تبقى من “فتح الإسلام”، إلا أن هذا التنظيم لم يعلن وقف إطلاق النار، وقرر استئناف القتال من مكان آخر، وتم الإعلان عن اسم مسؤول جديد للتنظيم هو عبد الرحمن عوض (أبو محمد) والذي يقيم في مخيم عين الحلوة، وقد بدأ بتحريك شبكاته النائمة، التي استنفرت مخابرات الجيش لمراقبتها، بعد أن أعادت تأهيل صفوفها، لا سيما في مخيم البداوي الذي فرض الجيش طوقاً أمنياً حوله، بعد محاولة فرار عناصر من “فتح الإسلام” من سجن روميه باتجاه البداوي، وقد نبهت قيادة الجيش الفصائل الفلسطينية إلى خطورة ما يجري، وأكدت بأن إجراءاتها هي لمنع تكرار ما حصل في البارد، والأمر نفسه بدأ في مخيمي عين الحلوة والمية وميه قرب صيدا ومخيم الرشيدية قرب صور، حيث تم استحضار عناصر من خارج لبنان إليهم، تحت عنوان مقاومة إسرائيل وقتال القوات الدولية، وجاء إطلاق صاروخي “غراد” من منطقة القليلة قرب صور، باتجاه مستعمرة “نهاريا” في فلسطين المحتلة، للإشارة على بدء العمليات، بعد أن تبنت كل من “سرايا عبد الله عزام مجموعة زياد الجراح” العملية، وكذلك “فتح الإسلام”.
فالمخيمات الفلسطينية تعيش على فوهة بركان سينفجر، بعد تمركز قوى أصولية إسلامية فيها والسيطرة عليها، وهو ما أقلق فصائل فلسطينية، لم يعد في إمكانها معالجة الوضع، وأن الجيش يتعاطى مع الملف بكثير من الحكمة والهدوء لعدم الانجرار إلى حرب بارد جديدة!.
Leave a Reply