يكوّن المتتبع للمشهد العربي الراهن صورة غير وردية على الإطلاق، بدءا من الخليج وعراقه المشرف على كارثة فراغ دستوري، إلى الجزيرة ويمنها العائد الى صراع متجدد بين حوثييه وقبائله وجيشه وتحرك “قاعدته” التي استهدفت منشأة نفطية في أحدث “أنشطتها”، إلى الأزمة الإيرانية-الغربية التي شهدت تعقيدات جديدة مع تشديد العقوبات الدولية والأميركية والأوروبية غير المسبوقة ضد طهران، بما يؤشر الى تطور هذه الأزمة إلى حرب مباشرة أو بالواسطة بين طهران والحلفاء الغربيين على أكثر من مساحة مفتوحة لامتصاص آثار هذه الأزمة من أفغانستان إلى العراق ووصولا ربما الى لبنان.
وعلى الجبهة الفلسطينية-الاسرائيلية، يظل انسداد الأفق سيد الموقف بسبب تعنت حكومة نتنياهو وعدم استعدادها لخوض أية مفاوضات جدية، بالتزامن مع فرض حقائق جديدة على الأرض، بلغت حد إزالة قرية فلسطينية بأكملها من الوجود في صحراء النقب الواقعة ضمن أراضي الـ 48، فكيف اذا تعلق الأمر بالأراضي المحتلة عام 67 في الضفة الغربية؟ واستمرار انسداد الأفق في “عملية السلام” التي يحاول الأميركيون استعادتها وإقناع الفلسطينيين والعرب بفوائدها، يكاد يقضي على آخر ما تبقى من صورة السلطة الفلسطينية، مقدمة لانهيارها وحصر الصراع مع الجناح الآخر في غزة والمتمثل في حركة حماس التي تعيش مأزق تحولها إلى سلطة وتحت حصار يجعل من غزة سجنا مفتوحا مثلما اعترف بذلك رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون.
لا تبدوهنا إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما في موقع القادرة على اتخاذ أية قرارات حاسمة للخروج من هذا المأزق، وتكتفي بملء الفراغ الحاصل في عملية السلام بطرح رؤى وأفكار جربتها ادارات سابقة تحت مسميات مختلفة ولم تدفع بعملية السلام المزعوم قيد أنملة.
أمام هذا المشهد المقلق والمفتوح على شتى الاحتمالات، يبدو لبنان متجها نحو أزمة جديدة لا قدرة له على احتمالها. فهناك محكمة دولية يشاع أنها على وشك إصدار قرار ظني في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، يطال عناصر من “حزب الله” الذي ليس بمقدروه تحمل هذا النوع من الاتهام لنزع صفة الحزب المقاوم عنه ووصمه بصفة القتل. وبالمقابل لا يستطيع “ولي الدم” رئيس الحكومة سعد الحريري التخلي عن المحكمة، لا سياسيا ولا أخلاقيا لكي لا يبدو كمن يرضخ للتهديدات، ولا حاجة هنا لأي تحريض اسرائيلي خبيث ومكشوف يحاول النفاذ الى جسم الخلاف اللبناني حول المحكمة لبث خلاياه السرطانية مثلما فعل مسؤولون اسرائيليون في الأيام الأخيرة، منتقدين رئيس الحكومة اللبنانية على “تخليه عن كرامته ودماء والده لمسايرة حزب الله”، هذا فضلا عن عدم قدرة الحريري الابن على تغيير الأساس القانوني الذي قامت عليه المحكمة والتي خرجت عن النطاق اللبناني، وباتت في عهدة دولية بموجب قرار دولي لا يمكن تغييره إلا بقرار دولي آخر.
بازاء هذا المأزق الذي يقع فيه لبنان مرة أخرى، وينذر بتداعيات خطيرة على سلمه الأهلي الهش، يحاول العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز محاصرة هذه التوترات الطارئة في جولته الحالية التي قادته الى القاهرة ومنها الى دمشق فبيروت ومن بعدها عمان، ويعول العاهل السعودي على تعاون وتجاوب سوريين في تجنب اندلاع حريق لبناني جديد قد يمتد لهبه الى خارج الحدود اللبنانية هذه المرة، اذا وجدت الفتنة التي يكثر الحديث عنها ويقل الكلام عن سبل تداركها، بيئة لاحتضانها.
لكن مهمة العاهل السعودي ليست سهلة على الاطلاق في ظل الانقسام العربي القائم ويتطلب نجاحه أولا في جهود راب الصدع بين القاهرة ودمشق التي أخفقت في الأشهر الأخيرة، ولاعادة إحياء المحور السعودي-السوري-المصري الذي من شأنه أن يسد جزءا من الفراغ العربي ويعيد بعضا من الاعتبار لموقف عربي مؤثر في خضم عملية اعادة رسم الخارطة الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط برمتها.
سيسمع اللبنانيون من الملك السعودي، والى جانبه الرئيس السوري، اذا صدقت التوقعات بحضورهما سوية الى بيروت يوم الجمعة، دعوة الى تحكيم العقل والابتعاد عن التشنج لحماية الأمن والاستقرار وربما يكون حضور الرئيس السوري الى بيروت مع الملك السعودي اشارة ايجابية الى تجديد مظلة الحماية العربية للاستقرار اللبناني، بالتفاهم مع قطر التي سيحضر أميرها في اليوم ذاته في زيارة يقال إنه يريد لها “طابعا شعبيا” خلال اعلانه عن اختتام مشاريع إعمارية إنمائية في الجنوب اللبناني نفذتها قطر بعد العدوان الاسرائيلي على لبنان في العام 2006.
لكن السؤال عن مدى نجاح محاولة “تعريب” الأزمة اللبنانية يبقى محفوفا بالكثير من الأسئلة الأخرى وأهمها السؤال عن الدور الإيراني الذي لا يقتصر حضوره في لبنان على حليفه الداخلي حزب الله، بل يشمل علاقة تحالف وثيقة مع سوريا يصعب التكهن بانفصامها خصوصا مع التراجع الذي يشهده الدور التركي، الذي كان قد سجل اندفاعة كبيرة وحضورا طاغيا في السنوات القليلة الماضية عولت عليه سوريا الكثير قبل أن يتعرض لاهتزاز كبير اثر “انتفاضة السفن” والمحصلة الدموية التي خلفتها لدى الناشطين الأتراك دون سواهم.
وقد يكون من المفيد هنا التوقف عند التحذير الذي أطلقه الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، على مشارف زيارة العاهل السعودي الى كل من القاهرة ودمشق وبيروت من حرب أميركية–اسرائيلية ضد “دولتين في المنطقة” وفق معلوماته “الدقيقة”، والدولتان وفق ايحاءات أحمدي نجاد هما سوريا ولبنان “اللتان لن تحتاجا الى تدخل بلاده” فيها “لأن نتائجها ستكون مدمرة على الطرف المعتدي”.
يجوز هنا التكهن أن القيادة الإيرانية لا تنظر بعين الارتياح الى المحاولات السعودية الدؤوبة لإعادة إحياء المحور الثلاثي العربي، وحيث يحمل تحذير نجاد من الحرب خلال الأشهر الثلاثة المقبلة موقفا ايرانيا محذرا للقيادة السورية من الركون الى التطمينات والاغراءات الأميركية والعربية “المعتدلة” أو محاولة الضغط على حليفها اللبناني “حزب الله” لحصر تداعيات قرار المحكمة الدولية المرتقب، الذي جاهر مسؤولون ايرانيون بأنه يهدف الى الضغط على طهران!
فهل تنجح جهود الملك السعودي في اعادة احياء المحور الثلاثي الذي يجمع بين الرياض والقاهرة ودمشق ليشكل الحد الأدنى من الحضور العربي الفاعل سواء في لبنان أو العراق أو اليمن، لمنع حروب داخلية طاحنة تذر بقرونها في هذه البلدان. أم أن قوس الأزمات الذي يظلل المنطقة العربية امتداد الى ايران وافغانستان بات أعصى من أن يؤثر به العرب، وبالتالي فإن ما يرسم للمنطقة على أبواب الانكفاء الأميركي العسكري عن العراق هو سيناريو لـ”حرب المئة سنة” القادمة بين الطوائف والمذاهب والأعراق التي ينفي تعايشها السلمي والحضاري المبرر الأساس لتكون اسرائيل دولة ذات نقاء ديني ليهود العالم وفق اصرارها، بل يناقض قيام كيانها على ارض فلسطين من الأصل.
Leave a Reply