نشأ الإسلام السياسي في بواكيره في تونس كما في غيرها من المنطقة العربية الإسلامية تحت شعارات فضفاضة وعامة لم تكن لتحدث خلافاً بين المنتمين الى التيارات الإسلامية آنذاك. كان يكفي أن تقوم تظاهرة أو مسيرة تحت شعار «الإسلام هو الحل» حتى يحضرها ويساندها أغلب مَن كانت مرجعيتهم سيد قطب أو البنا أو محمد عبده أو ابن تيمية أو محمد ابن عبد الوهاب أو غيرهم. كما أن هذا الشعار البسيط والمغري كان كفيلاً كذلك بجذب الكثير من عامة المسلمين في تونس كما في أغلب المنطقة العربية الإسلامية.
كان شعار «الإسلام هو الحل» الشجرة التي تخفي وراءها الغابة. غابةٌ من المفاهيم والأنساق الفكرية والفقهية، لم تجد الفرصة لتعبّر عن نفسها ورؤيتها لكيفية تطبيق «الإسلام هو الحل» على أرض الواقع. فتيار الإسلام السياسي كان آنذاك وليداً ويحتاج وقتاً حتى يتبلور أكثر. فعند بداية الإرهاصات الأولى لظهور تعددية ضمن فضاء «الإسلام هو الحل» برزت تيارات أرادت التميّز والتعبير عن رؤية خاصة بها، كان أبرزها التيار الذي عرف بإسم «الإسلاميين التقدميين» بقيادة الشيخ حميدة النيفر لكن التجربة لم تنضج حيث، سارعت الماكينة القمعية للدولة التونسية وأجهضت التجربة وقضت عليها في المهد وأوقفت التفاعل داخل التوجه الإسلامي العام وزجّت بالكثير من كوادره وأنصاره على مختلف توجهاتهم في السجون وخرج الكثير منهم للمنافي والإغتراب، وتوقف الأمر عند ذلك وظل التيار الاسلامي أو «الاتجاه الاسلامي» كما كان يسمى قبل تغيير اسمه إلى حركة «النهضة»- تياراً إسلامياً عاماً وجامعاَ لكل الأطياف والمشارب ذات المرجعيات الإسلامية الإخوانية والسلفية وغيرها إلى حين اندلاع ثورة «14 جانفي» في تونس.
بعد ثورة الشباب وسقوط نظام بن علي عاد كثير من قيادات وأنصار التيار الاسلامي من الخارج وأُطلق من تبقى منهم في السجون، ولم يكن لديهم متسع من الوقت لمناقشة الخلفيات والمفاهيم، فوجد التيار الاسلامي نفسه في مواجهة استحقاقات المرحلة الانتقالية وانتخابات المجلس التأسيسي وفي مواجهة منافسين سياسيين تاريخيين مثل أحزاب اليسار والقوميين والدساترة والبعض ممن غيروا جلدهم من النظام القديم ليعودوا تحت مسميات جديدة. التحدي كان كبيراً والوقت كان ضيقاً أمام التيار الاسلامي الذي حافظ على تماسكه تحت ذات الشعار العام «الإسلام هو الحل» الذي مثل قارب النجاة و«سفينة نوح» التي حضنت جميع تيارات الإسلام السياسي وحمتهم من الانقسام وحملتهم موحَّدين لإنتخابات المجلس التأسيسي فصوت أغلبهم لحركة «النهضة» الإسلامية التي كانت بمثابة رأس القاطرة التي تقود البقية والتي بويعت بوصفها حاملة «المشروع الإسلامي» ممّا مكنها من الفوز بالإنتخابات.
«سفينة نوح» بلغت آخر مرافئها لترسو أمام بوابات السلطة المشرعة معلنة نهاية «مرحلة الدعوة» ودخول الإسلاميين «مرحلة الدولة».
الإخوان والسلفية: الشيطان يكمن فـي التفاصيل
بعد فرحة الفوز ونشوة القبض على جزء كبير من السلطة ومؤسسات الدولة، بدأت تطفو على الساحة السياسية مطالب من أطراف اسلامية وابرزها التيار السلفي الجهادي الذي تمثله في تونس جماعة «أنصار الشريعة» التي كانت تنتظر من «النهضة» أن تبادر وتُكرس شعار «الإسلام هو الحل» على أرض الواقع بتطبيق الشريعة. ورغم بروز بوادر نشوء صراع غير معلن في البداية مع «أنصار الشريعة»، فإنّ «النهضة» التي كانت أكثر خبرة وتمرس وكانت تدعو الى «التدرّج» استطاعت أن تحتوي الأزمة الناشئة دون صدام إلى حين، لكن مع بعض «الخسائر»، خاصّة بعد أن أرادت ان تسترضي وتستألف السلفية لتبقيها في دائرة نفوذها فتغاضت عن استخدام «أنصار الشريعة» لبعض المساجد لحشد الانصار ونصب الخيام الدعوية وتقديم الخدمات المجانية الى المعوزين وهو ما مكّنهم من إكتساب مزيد من القواعد سيما في صفوف الشباب المتدين والذي كان الى فترة قريبة قواعد مفترضة لحركة «النهضة».
لكن رغم كل مساعيها فقد فشلت «النهضة» في إحتواء «أنصار الشريعة» وبدأ الصراع يأخذ شكلاً صدامياً ببداية الحديث عن اكتشاف مخازن للسلاح في بعض المناطق بالعاصمة وبداخل الجمهورية نسب بعضها للتيار السلفي الجهادي ثم تصاعدت حدة المواجهات إلى أن بلغت ذروتها، عندما بدأ الاعلام يتحدث عن وجود مجموعة جهادية تتدرب في جبل الشعانبي بمدينة القصرين (وسط غرب تونس) بهدف القيام بعمليات مسلحة داخل البلاد ثم تطورت الأمور بالحديث عن زرع المجموعات السلفية لألغام بالجبل المذكور وحدوث اصابات بليغة لبعض رجال الأمن مما دفع بقوات من الجيش والحرس الى تطويق المنطقة وتمشيطها. دخلت الأمور منعرجاً أكثر خطورة بإزدياد التوتر واندلاع المواجهات يوم الأحد الماضي بعد قرار السلطات منع «أنصار الشريعة» من إقامة مؤتمرهم الثالث في مدينة القيروان التاريخية والتي تقع في الوسط الشرقي من تونس، وازدادت الصدامات حدة بعد أن منعوا من نقل مؤتمرهم من القيروان إلى حيّ التضامن غرب العاصمة تونس، لتقوم على أثر ذلك مصادمات عنيفة في الشارع قتل فيها حسب مصادر إعلامية شخص وأصيب ١٥ أغلبهم من قوات الأمن، فيما تم اعتقال 200 شخص على خلفية المواجهات التي تزامنت مع تصريحات شديدة اللهجة لرئيس الحكومة علي العريض الذي وصف تيار «أنصار الشريعة» السلفي بغير القانوني وبأنه «ضالع في الإرهاب» وأكد على عدم التهاون مع كل من يرفض الدولة ويستعمل العنف ورد عليه زعيم «أنصار الشريعة» بتونس سيف الله بن حسين (أبو عياض) ووصفه حسب مصادر بـ المريض مهددا بشن حرب لإسقاط حكومته اذا واصل اتهامه بالتورط في تجارة السلاح والعنف المادي داعياً ما اسماهم «عقلاء النهضة» بحثّ العريض على الكف عن هذه التصريحات.
لقد استطاع التيار السلفي أن يصبح في فترة وجيزة لاعبا مهما في المشهد السياسي التونسي بعد أن توسعت قواعده بإستقطاب العديد من الشباب من داخل وخارج الحركات الإسلامية.
فما هي الأسباب التي ساعدت على إنتشار الظاهرة السلفية بمثل هذه السرعة والحجم؟
من العوامل التي ساهمت في تنامي السلفية: أولاً، بساطة خطابهم وقربه من عامة المسلمين. ثانياً، دور التعبئة الذي ساهم فيه مشائخ سلفية عبر فضائيات ومساجد. ثالثاً قيامهم بتقديم خدمات للناس خاصة في المناطق والأحياء الفقيرة في المدن والعاصمة. رابعاً، حالة البطالة وعدم توفر الشغل للشباب بعد سنتين من الثورة. خامساً، حالة الوهن التي أصابت الدولة بعد الثورة وتفشى السلاح خاصة القادم من ليبيا، سادساً وهو أهم الأسباب إحساس كثير من قواعد الإسلاميين بأنّ «النهضة» قد ادارت ظهرها لمشروع «الإسلام هو الحل» فحولوا وجهتهم نحو السلفية المتمسكة به.
ولقد برزت عدة مؤشرات تدل على حتمية نشوب صراع وشيك بين «النهضة» و«أنصار الشريعة» كان أهمها:
أولا: عدم حسم «النهضة» لمسألة المفاهيم والمرجعيات واستمرارها في رفع شعارات عامة غير خلافية، ذهب مراقبون الى إعتبارها سياسة مقصودة لدواعي انتخابية.
ثانياً: انتماء التيارين إلى مرجعيتين فكريتين ودينيتين مختلفتين، «النهضة» نهلت على مر تاريخها من المنابع «الاخوانية» بالمقابل نشأ «أنصار الشريعة» في ثقافة سلفية، وقد كانت هذه المرجعيات سببا رئيسيا في إختلاف المفاهيم بين التيارين، فكان كلما ازداد التوغل في الواقع وتفاصيله كلما تعددت نقاط الخلاف وازداد الشرخ اتساعاً.
ثالثاً: إقتضت لعبة السياسة، خاصة بعد تحول حركة «النهضة» من «الدعوة» الى «الدولة» ودخولها في تحالفات أن تعدل الاوتار في إطار حسابات وطنية واقليمية ودولية مما يعني إخضاعها لخطابها الفكري والسياسي الى معطيات الواقع الجديد، وما يعني أيضاً تخليها بشكل ما عن إيديولوجيتها التي فقدت أنساقها الأصلية وصرامتها الإلزامية، في حين كان تيار «أنصار الشريعة» السلفي في حلٍّ من التزامات الدولة والسلطة ممّا أعطاه قدرة على التمسك بمرجعيته بمفاصلها وتفاصيلها.
لم يعد للخطاب الإيديولوجي لحركة «النهضة» بالنسبة لأنصار «الاسلام هو الحل» نفس الجاذبية الأولى التي عرف بها خاصة بعد إنغماس الحركة في اللعبة السياسية ومجاراتها لمقتضيات الصراع السياسي بما فيه من تقلبات وتكتيكات فلا علاقة بين السياسة والأخلاق كما قال منظر السياسة ميكيافيلي ، فكانت أرثدوكسية جماعة «أنصار الشريعة» الاسلامية ملاذا وبديلا إيديولوجيا للمتمسكين بخطاب ديني تقليدي أكثر «طهرانية» وهم شريحة لا يستهان بها من مختلف شرائح المجتمع.
Leave a Reply