أميركا لا تقبل خسارة لبنان وتستخدم المحكمة الدولية ضد المقاومة
منذ أكثر من نصف قرن، والولايات المتحدة الأميركية، تحاول وضع يدها على لبنان، وجذبه إلى مشاريعها السياسية في المنطقة، واتخاذه ساحة للعبور منه إلى تنفيذ مخططاتها، وهي تنظر إليه، من موقعه الجيو – سياسي، وليس كبلد فيه موارد طبيعية، لذلك كان الاهتمام به، كونه يشكل الميزان في الصراع على المنطقة.
فمنذ أن وطأت أميركا الشرق الأدنى، وورثت تركة الاستعمار البريطاني والفرنسي، بعد الحرب العالمية الثانية، وقيام حلف الناتو (الأطلسي) بقيادتها، وتمركزها في القارة الأوروبية، لمواجهة التمدد الشيوعي، واقترابها في منابع النفط عبر تواجدها العسكري في عدد من القواعد العسكرية والممرات البحرية، كان لبنان حاضراً في كل الخرائط التي رُسمت للمنطقة، لأنه كان يؤثر سياسياً وإعلامياً، كما كان يحتضن نشاطاً سياسياً وحزبياً، ويستقطب قوى وشخصيات سياسية معارضة لأنظمتها.
من هنا، أقامت أميركا فيه، في الخمسينات مركزاً لمخابراتها الأميركية، وما سُمي بالنقطة الرابعة، بمواجهة المد الشيوعي، مع تنامي الحرب الباردة، بين القطبين العالميين الأميركي والسوفياتي، إذ كان الصراع على أشده في كل دول العالم، بين النظامين الرأسمالي والشيوعي، وقرّرت الولايات المتحدة منع وصول النفوذ السوفياتي إلى المياه الدافئة، والاقتراب من منابع النفط وهي بدأت تقلق من صعود ثورات في العالم العربي، رداً على هزيمة أنظمة عربية في حرب فلسطين عام 1948، وكانت أولها ثورة الضباط الأحرار في العام 1952 في مصر التي قادها جمال عبد الناصر ورفاقه، وقبلها ما حصل من انقلابات عسكرية في سوريا بدأت في العام 1949 وحملت عنوان استرجاع فلسطين.
لذلك ركّزت الولايات المتحدة على العالم العربي، ومن ضمن استراتيجيتها حماية إسرائيل، التي تعتبر قاعدة أميركية متقدمة، وكانت تسمى بـ”مخفر أمامي” لحماية المصالح الأميركية والإمبريالية وفق الأدبيات السياسية لحركات اليسار والعروبة في ذلك الزمان.
ولقد نال لبنان نصيباً في أن يكون من ضمن الدول التي تصون المصالح الأميركية ومنها أن يكون ساحة متقدمة لمكافحة الشيوعية، كما لمواجهة التمدد الوحدوي العربي الذي مثله مشروع الرئيس عبد الناصر الذي طرح فكرة الوحدة العربية، وقد شكّل صعود المشروع القومي الوحدوي ببعده العربي، قلقاً لدى أميركا التي كانت تبني مشروعاً إقليمياً آخر طرحه رئيسها إيزنهاور، أو ما سُمي حلف بغداد الذي كان يضم تركيا وإيران والعراق ولبنان والأردن، ويحظى بدعم السعودية، في حين كان عبد الناصر يسعى إلى إيقاظ الوحدة العربية ومشروعها القومي، فجوبه برفض أميركي، لا سيما وأن هذا المشروع كان بمواجهة إسرائيل، التي سعت إلى إسقاط حكم عبد الناصر، وشنّت عدواناً ثلاثياً مع فرنسا وبريطانيا بما عرف بحرب السويس.
لقد شكّل لبنان في مشروع إيزنهاور نقطة انطلاق، في عهد الرئيس كميل شمعون الذي ارتبط بمعاهدة مع أميركا، وحاول التجديد لرئاسته، لكن الحظ لم يسعفه، إذ كان المد الناصري يقوى في لبنان، بمواجهة النفوذ الأميركي الذي أصيب بنكسة في العراق مع سقوط الملكية، عبر انقلاب قاده عبد الكريم قاسم مدعوماً من الشيوعيين والعروبيين، مما أربك المشروع الأميركي وكسر إحدى حلقاته، الذي انهزم أيضا في لبنان الذي هرع إليه الأميركيون، لإنقاذ حليفهم شمعون من ثورة قامت ضده قادتها المعارضة اللبنانية المتحالفة مع عبد الناصر، وكان من رموزها: كمال جنبلاط، صائب سلام، صبري حمادة، رشيد كرامي، رينيه معوض، فأرسل الرئيس إيزنهاور الأسطول السادس الأميركي الذي أنزل جنوداً أميركيين في لبنان لحماية شمعون من السقوط، وانتهاء ما سُمي بـ”حلف بغداد”، لكن الثورة كانت أقوى وتمكّن عبد الناصر من عقد تسوية مع الأميركيين أنهت عهد شمعون وأوصلت قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية، حيث خسر الأميركيون نفوذهم في لبنان، لصالح نفوذ عبد الناصر، الذي كان قوياً في الجيش، وتمكّن من خلال ما سمي آنذاك المكتب الثاني (المخابرات) من أن يلقي بقبضته على الوضع السياسي والأمني.
تراجع النفوذ الأميركي، لصالح النظام المصري الذي مثّله في لبنان سفيره عبد الحميد غالب، وقد تراجع الدور المصري، بعد هزيمة حزيران 1967، لصالح نمو حركات يسارية وقومية ووطنية راديكالية، مع تمدّد الحضور السوفياتي في المنطقة، وارتفاع أصوات تطالب بإسقاط الأنظمة الرجعية العربية، التي أدّت إلى النكسة، وقد استفاد اليمين اللبناني من تضعضع الوضع العربي، فحاول التقدم عبر “الحلف الثلاثي” وهو تحالف ماروني، رفع شعارات ضد سلطة المكتب الثاني والنهج الشهابي في الحكم، وتمكّن في حالة عاطفية في انتخابات 1968، من أن يفوز بأكثرية المقاعد النيابية، لاسيما المسيحية منها، فأسس هذا الفوز، لاصطدام بالمقاومة الفلسطينية التي كانت بدأت تعمل من حدود لبنان باتجاه “إسرائيل”، فدخل لبنان في الفوضى، التي شجّع عليها وزير الخارجية الأميركية الأسبق هنري كيسنجر الذي طرح مشروع تقسيم المنطقة ولبنان من ضمنها، وهو ما دغدغ الشعور المسيحي بالعودة إلى النفوذ الغربي كمشروع حماية للمسيحيين الذين وُضعوا بمواجهة الفلسطينيين، وغذّت إسرائيل هذا التوجه لأنها تبعد العمل الفلسطيني المسلح عن حدودها، بإثارة الفتنة بين الفلسطينيين، والحلف الثلاثي الماروني، الذي خرج منه فيما بعد العميد ريمون اده، بعد أن أدرك المخطط الأميركي بتقسيم لبنان وتوطين الفلسطينيين الذين حاربوا أيضا لمنع توطينهم وتمكينهم من حق العودة.
لعب المشروع الأميركي في لبنان فأشعل فيه الحرب الأهلية، ونجح في ذلك، وسعى إلى ترحيل المسيحيين، فتصدى له الرئيس الراحل سليمان فرنجية، عندما نقل إليه المبعوث الأميركي دين براون مشروع نقل المسيحيين بالبواخر إلى أوروبا وأميركا ودول أخرى، وتدخلت سوريا لمنع تقسيم لبنان، وأجبرت اللبنانيين بالقوة العسكرية وقف الحرب، وفرضت على الفلسطينيين التزام المخيمات، لكن زيارة الرئيس المصري أنور السادات إلى إسرائيل وطرح مبادرة سلام على قادتها، أعاد تفجير الوضع في لبنان منتصف 1978، كما تم إشعال الفتنة في العام 1975، لتغطية مفاوضات كانت تجري بين النظام المصري وإسرائيل بإشراف أميركي، فأعيد تجديد الحرب من جديد، وقد شعر حزب الكتائب أن تحالفه مع الرئيس السادات، سوف يعطيه القوة داخل لبنان، فتعاون مع النظام المصري لتمرير اتفاقية كامب دايفيد، بعد أن أعلن بشير الجميل، وكان أصبح قائداً عسكرياً “للكتائب”، أنه إذا ما وصل إلى رئاسة الجمهورية سيوقع صلحاً مع العدو الإسرائيلي، ويجب أن تتم مساعدته بإخراج القوات السورية من لبنان، ونزع السلاح الفلسطيني، وقد لاقت مبادرة الجميّل قبولاً أميركياً وإسرائيلياً وتأييداً مصرياً ومن بعض الدول العربية التي لا تمانع من إقامة سلام مع إسرائيل.
وهكذا بدأ قائد “القوات اللبنانية” بعد أن وحّد ما سُمي بـ”البندقية المسيحية”، وألغى التعددية العسكرية والحزبية، بما سماه تحرير المناطق الشرقية من الوجود العسكري السوري، فكانت معارك الأشرفية والفياضية، ونجح بقرار عربي بإخراج القوات السورية من بعض المناطق ذات الكثافة المسيحية ليحكم قبضته العسكرية عليها، وحاول ان يوسع “كانتونه المسيحي” بربطه جغرافياً بمناطق الأطراف المسيحية، فكانت معارك زحلة التي هُزم فيها، وكان بذلك يمهّد لملاقاة اجتياح إسرائيلي في العام 1982 يجتاز نهر الليطاني شمالاً، بعد أن توقف في العام 1978 عند حدود الليطاني، ونشر فيه ميليشيا تابعة لسعد حداد الذي أرسله كميل شمعون لمساعدة الاحتلال الإسرائيلي.
حصل اجتياح 1982، واغتيل بشير وخلفه أمين الذي حضرت القوات المتعددة الجنسيات لحماية عهد الجميّل الشقيق، وفرض اتفاق سلام مع إسرائيل، عُرف باتفاق 17 أيار، لكن القوى الوطنية تصدّت له وأسقطته، مع تصاعد في عمليات المقاومة التي أخرجت الاحتلال الإسرائيلي من العاصمة والجبل وأجزاء كبرى من الجنوب، وتدمير مقرات “المارينز” والوحدة الفرنسية، مما دفع القوات الأطلسية إلى مغادرة لبنان، بعد أن فشلت المدمرة “نيوجرسي” في أن تحقق أهدافها في الحرب الداخلية، وهكذا انهار حكم الجميّل الذي فُرض عليه إلغاء اتفاق “17 أيار”، كما وافق على حكومة وحدة وطنية، لكنه تمنّع عن تحقيق إصلاحات سياسية، وخرج الأميركيون من لبنان، الذي احتضن المقاومة، وتكامل مع محيطه الطبيعي مع سوريا التي نجحت في إفشال المشروع الأميركي، وتمكّنت القوى الوطنية من فرض الإصلاحات السياسية في اتفاق الطائف الذي أوقف الحرب الأهلية، وسعت أميركا أن تحضر عبر مباركته، وسلّمت لسوريا بأن ترعى تطبيقه، فأرست السلم الأهلي وحلّت الميليشيات، وأبقت على المقاومة وسلاحها بالرغم من اعتراض أميركي وإسرائيلي وتساؤلات داخلية لبنانية، فكان الرد على ذلك، أن المقاومة ليست ميليشيا وسلاحها للتحرير، وقد تمكّنت هذه المقاومة من إنجاز التحرير بعد ثلاث اعتداءات على لبنان في أعوام 1993 و1996 و1998، فكان الحصاد في 25 أيار 2000.
فبعد التحرير، تغيّر وجه لبنان الذي أصبح مقاوماً بامتياز، وهو ما أزعج دول عربية إضافة الى إسرائيل وأميركا، وبدأ العمل على إنهاء المقاومة تحت عنوان، إنها لم تعد لها حاجة وضرورة، بعد أن تمّ انسحاب إسرائيل، لكن المقاومة ربطت وجودها بتحرير ما تبقى من أراضٍ محتلة في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والجزء الشمالي من مدينة الغجر، وعودة الأسرى الأحياء وإعادة جثامين الشهداء منهم، إضافة الى أن على الدولة اللبنانية الاستفادة من المقاومة كقوة ردع تضاف الى جهد الجيش في الدفاع عن لبنان.
لكن بعض الأطراف اللبنانية التي ارتبطت بالمشروع الأميركي، صعّدت ضد المقاومة، ورأت أن نزع سلاحها، يبدأ بإخراج القوات السورية من لبنان، والتي تشكّل مظلة حماية لها سياسياً وعسكرياً، فكان التركيز على الوجود العسكري السوري، كممر إجباري للوصول الى المقاومة، وقد زاد تصعيد هذه الأطراف بعد الاحتلال الأميركي للعراق، والتصق هؤلاء أكثر بالإدارة الأميركية، وتمكّن البطريرك نصر الله صفير من إنشاء “لقاء قرنة شهوان” وكان هدفه الوجود العسكري السوري، والمطالبة بإخراجه، وقد لاقاه في ذلك النائب وليد جنبلاط وفي مرحلة لاحقة الرئيس رفيق الحريري، حيث كشف كتاب “سر الرؤساء” عن معرفة الأخير بالقرار 1559، الذي صنعه الرئيسان الأميركي جورج بوش والفرنسي جاك شيراك، حيث تبيّن من مضمون هذا الكتاب، إن الاتفاق الأميركي-الفرنسي، شكّل غطاءً لقوى داخلية لبنانية للهجوم على سوريا والمقاومة وقد طلب القرار بخروج الجيش السوري وحل الميليشيات ونزع سلاحها.
هذا المشروع الأميركي-الفرنسي، نُفّذ باغتيال الرئيس الحريري، لأنه من دون مثل هذا الحدث، لا يمكن تطبيق القرار 1559، ودخل لبنان منذ العام 2005، تحت الوصاية الأميركية، وتمّ إنشاء المحكمة الدولية، كأداة تنفيذ لمحاكمة قتلة الحريري، ووُجه الاتهام نحو سوريا ونظامها الأمني في لبنان باشتراك مع قادة الأجهزة الأمنية اللبنانية، وبعد أربع سنوات من التحقيقات الدولية، أُخرجت سوريا من الاتهام، بعد أن بدأ النفوذ الأميركي يتراجع لصالح مشروع المقاومة المتحالف مع سوريا وإيران، والذي تبيّن أن لا صحة للاتهام الذي وصفه سعد الحريري بالسياسي، وشهود الزور بالمضللين، وقد بدأت صدقية المحكمة تسقط، وهو ما دفع بالإدارة الأميركية وإسرائيل الى أن تستعجل إنقاذ المحكمة والتحقيق، وتمّ توجيه الاتهام الى “حزب الله”، وتسريب معلومات عن إشتراك عناصر من الحزب بالجريمة، وأنه من خلال هذا الاتهام يتم الوصول الى المقاومة الذي يتهم القرار كما سُرّب مصطفى بدر الدين، وهو من قياديي المقاومة، وعلى صلة قرابة مع الشهيد عماد مغنية، وأنه من خلال هذا الاتهام يتم الوصول الى قياديين آخرين ليوجه الاتهام الى قائد المقاومة السيد حسن نصر الله، حيث كشفت المعلومات أن حوالي 160 شخصاً من “حزب الله” تمّ تحضير ملفاتهم في المحكمة لاستدعائهم أمامها، وهو ما ترفضه قيادة “حزب الله” التي قرّرت الدفاع عن نفسها، بوجه قرار مفبرك، تحدّث عنه رئيس الأركان الإسرائيلي غابي أشكينازي، وأبلغه وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير ورئيس لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس الأميركي جون كيري الى مسؤولين لبنانيين، وكل منهما أشار الى عناصر من الحزب، ويبدو أن أميركا تريد من المحكمة أن تكون أداة تنفيذية ضد المقاومة، وقد قامت الإدارة الأميركية بتقديم عشرة ملايين دولار لتمويلها، التي أعلن رئيسها أنطوني كاسيزي أن المدعي العام دانيال بيلمار سيصدر القرار في كانون الأول، وهو ما فرض سباقاً بين صدور القرار وحل قضية شهود الزور التي باتت تهدّد الوضع الداخلي، لأن على النتيجة التي سترسو عليها، سيتقرر وضع الحكومة، إضافة الى ما قد يتهدّد الاستقرار.
إن أميركا التي خسرت لبنان في مشروعها للشرق الأوسط، تحاول أن تستعيده، فجاء جيفري فيلتمان لدعم “لقاء قرنة شهوان” في اجتماع بكركي الذي أصدر بياناً، فتح معركة مع المقاومة، كما أن الرئيس الحريري، طلب من فريقه الصمود حتى صدور القرار الظني الذي يمكن التفاوض مع “حزب الله” عليه، بنزع سلاح المقاومة، وهو ما تريده أميركا، وهذا ما يرفضه الحزب الذي قرّر الدفاع عن نفسه، ومواجهة كل الإحتمالات، ومنها التحرك الميداني والحسم السريع لمنع إشعال الفتنة وزج المقاومة فيها.
Leave a Reply