منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ومن ضمن المخطط الأميركي لوضع اليد على لبنان، واستثماره في مشروع “الشرق الأوسط الكبير” للرئيس السابق جورج بوش، كان إنشاء المحكمة الدولية، وقبلها لجنة التحقيق الدولية، والاستعانة بشرطة أجنبية فرنسية وأميركية تحديداً، من أجل السيطرة على مؤسسات الدولة الأمنية والقضائية، تحت عنوان، أن لبنان كان يحكمه نظام أمني لبناني-سوري مشترك، وأن قضاءه مسيّس، لا يمكن أن يأتي بالحقيقة في اغتيال الحريري.
لقد نجح المخططون لاستعمار لبنان، من خلال الوصاية الأجنبية عليه، في قيام محكمة، عبر اتفاق وُقّع بين الحكومة اللبنانية برئاسة فؤاد السنيورة والتي كانت تفتقد للشرعية الدستورية والميثاقية، والأمم المتحدة، دون أن يوقعها رئيس الجمهورية السابق إميل لحود، ولم يبرمها مجلس النواب كما ينص الدستور، فخرجت بطرق غير دستورية، وتحت ضغط مسلسل الاغتيالات الذي اتخذ ذريعة لقيام المحكمة وتحت عنوان وقف الاغتيالات ومعاقبة المجرمين.
فالمحكمة كانت وليدة انقسام سياسي داخلي، أذ أن أطرافاً لبنانية، طالبت بدرس بنودها، ودعت إلى أن يعطى الوقت الكافي لتعبر المؤسسات الدستورية، لكن الضغط الأميركي على حكومة السنيورة أضفى إلى استصدار قرار من الأمم المتحدة حمل الرقم 1757، وأنشأ المحكمة تحت الفصل السابع، بناء لرسالة من الحكومة المبتورة، وتوقيع كتاب من 71 نائباً كانوا يمثلون الأكثرية النيابية، وهم قوى “14 آذار”.
لم تسلك المحكمة الطرق الدستورية، لأن الإدارة الأميركية آنذاك، كانت تريد استخدامها ضد سوريا، في تلك المرحلة الذي توجه التحقيق برئاسة المحقق الألماني ديتليف ميليس إلى توجيه الاتهامات إلى سوريا، والى النظام الأمني اللبناني – السوري المشترك، وزج بالضباط اللبنانيين المسؤولين عن الأجهزة الأمنية في السجن لمدة أربع سنوات، بناء على إفادات وشهادات كاذبة لشهود زور، كانت للمحكمة وظيفة سياسية، كما للجنة التحقيق، تستخدمها أميركا ومعها إسرائيل، من أجل ضرب المقاومة، ومحاولة محاصرة سوريا وعزلها، لأنها في موقع الحاضن للمقاومة وتشكل دولة صمود وتصدي وممانعة للإملاءات الأميركية والشروط الإسرائيلية، وقد نحى التحقيق الدولي هذا الاتجاه، منذ وقوع الاغتيال، وصوّب سهامه نحو سوريا، بالرغم من أن التحقيق اللبناني كان توصل وفي الساعات والأيام الأولى لوقوع الجريمة، إلى أن من قام بها هو تنظيم إسلامي أصولي، بعد ظهور شريط مصوّر لأحمد أبو عدس، وُزّع على وسائل الإعلام، يعلن عن استهدافه لموكب الحريري في سيارة فان من نوع “ميتسوبيشي” تمكنت كاميرات مصرف H.S.B.C من التقاطها، وتصوير عملية التفجير، ودحض هذا الفيلم ما ذكره النائب محمد قباني من أن التفجير تمّ تحت الأرض، لتوجيه الاتهام نحو الأجهزة الأمنية اللبنانية والسورية، وهي أول عملية تضليل للتحقيق، وأول شهادة زور، عندما قدم النائب قباني خرائط، تبيّن فيما بعد أن كل ما ذكره كان من نسج الخيال وتركيب فيلم فاشل، حيث تم الانتقال إلى شهود الزور الذين تمّت فبركتهم، وتمّ تقديمهم إلى ميليس الذي أوصى القضاء اللبناني بتوقيف الضباط جميل السيد وعلي الحاج وريمون عازار ومصطفى حمدان، وبدأ الضغط على سوريا، فتمّ استدعاء ضباط منها إلى جنيف للتحقيق في إطار التعاون معه، عندما كانت دول أخرى وفي طليعتها إسرائيل تمتنع عن التعاون، كما لم تتوجه لجنة التحقيق إلى وضع احتمال أن تكون متورطة في الاغتيال، وهي في تاريخها مسلسل من الجرائم، ولم يمضِ عام على مقتل الحريري، حتى نفذت إسرائيل جريمة اغتيال الأخوين مجذوب في صيدا، وتم اعتقال العميل محمود رافع الذي اعترف بارتكاب الجريمة مع مسؤولين من المخابرات الإسرائيلية.
لم تتوجه لجنة التحقيق الدولية إلى إسرائيل تسأل مخابراتها عن احتمال ضلوعها في اغتيال الحريري، بل ركزت على سوريا وحلفائها في لبنان وفي طليعتهم “حزب الله” الذي وضع إمكاناته بتصرف التحقيق، وأبلغ عائلة الحريري أنه سيبذل جهده من أجل كشف الحقيقة، ووافق على طاولة الحوار في 2 آذار 2006، التي انعقدت في مجلس النواب على أن تأخذ العدالة مجراها، ولم يكن يظن أن هناك من يستغل الجريمة إلى مآرب سياسية، وأن أطرافاً داخلية تعمل لتضليل التحقيق، ولا يهم هؤلاء وهم من قوى “14 آذار”، والذين يعملون من ضمن المشروع الأميركي، إلا أن يصلوا الى سوريا والمقاومة، وهذا ما تمّ اكتشافه بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان صيف 2006، بأن كل ما يجري منذ اغتيال الحريري، هو الوصول إلى المقاومة وسلاحها، وأن الحكومة التي يشارك فيها ويترأسها السنيورة والتي تستغل قوى “14 آذار” التي تحظى بالأكثرية داخلها، وتستأثر بالقرار، تعمل فقط لنزع سلاح المقاومة.
لقد تنبهت سوريا والمقاومة، إلى أهداف التحقيق الدولي، ومن ثم المحكمة الدولية، التي تكوّنت في العام 2009، وأطلقت الضباط الأربعة، بعد تشكيلها لأنه ثبت أن اعتقالهم كان سياسياً وتعسفياً، وابتعد الاتهام عن النظام الأمني السابق، لينتقل نحو “حزب الله”، إذ بدأ منذ العام 2006 وإثر العدوان الإسرائيلي، تكوين ملف له، يستند إلى الاتصالات الهاتفية بعد أن انكشف شهود الزور، وتمّ إخراج القوى الإسلامية الأصولية، من ارتكاب الجريمة، بعد أن اعترفت ما سميت بمجموعة 13 أمام فرع المعلومات الذي كان يترأسه المقدم سمير شحادة في العام 2006، أنها اغتالت الحريري، ومن أعضائها خالد طه الذي جنّد أبو عدس، ثم اختفى وقد بدأ فرع المعلومات يركز نشاطه على “حزب الله”، وقد كشف رئيس “تيار المردة” النائب سليمان فرنجية، أن العقيد وسام الحسن أخبره في العام 2007 أنه تجمع لدى الفرع من خلال تحليل اتصالات هاتفية، أن عناصر من “حزب الله” لها علاقة باغتيال الحريري. وقد نقل فرنجية هذه المعلومات إلى “حزب الله” الذي بدأ يدقق بها، ثم ما لبث أن نشرت جريدة “الغيفارو” الفرنسية في العام 2008، تقريراً يشير إلى تورط عناصر من “حزب الله” في الاغتيال، وهو ما ظهر فيما بعد في مجلة “دير شبيغل” الألمانية، وجريدة “لوموند” الفرنسية، ونقله فيما بعد الرئيس سعد الحريري إلى الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله قبل أشهر وأكّد له، أن القرار الاتهامي سيذكر أسماء عناصر من “حزب الله” كمدانين في الجريمة، وأنا لن أحمّل الحزب المسؤولية ولا قيادته ولا السيد حسن، بل عناصر غير منضبطة وردّ نصر الله برفض الكلام من أساسه، لأنه لا صحة له، وقد أجرينا تحقيقات داخل الحزب، وتبيّن أن القرار مفبرك، وهذه المرة على موضوع الاتصالات المخروقة من إسرائيل.
بعد لقاء الحريري-نصر الله في نهاية أيار الماضي، بدأ “حزب الله” يستجمع معلومات حول احتمال تورط إسرائيل في الجريمة، وقد أظهر الأمين العام للحزب من خلال مؤتمرات صحافية، وثائق وأفلام تبرز فرضية أن تكون إسرائيل وراء الاغتيال وهي الفرضية التي ألغاها التحقيق الدولي، ولم يركز إلا على “حزب الله”، وقد بوشر بتجميع معلومات عن الحزب بمشاركة أجهزة أمنية وقضائية لبنانية، حيث تبيّن أن التحقيق ذهب الى أبعد من البحث عن الحقيقة في اغتيال الحريري، بل الى التفتيش عن معلومات بكل ما يتعلق بالمقاومة، والتجسس على اللبنانيين، إذ طلبت معلومات عن طلاب الجامعات، وعن الأموال الشخصية للبنانيين، وعن الاتصالات الهاتفية لعدة سنوات، حيث استحصلت على مليارات من الاتصالات، ووصلت أخيراً الى عيادة نسائية، لأخذ معلومات عن نساء يذهبن الى الدكتورة إيمان شرارة، وبعضهن زوجات قياديين في المقاومة، ومسؤولين في “حزب الله”، مما كشف الهدف من أن عمل التحقيق الدولي، هو وضع لبنان كله تحت المجهر الإسرائيلي، بعد أن تمّ تعطيل شبكات العملاء له في العامين الماضيين.
لقد تصدت نساء للمحققَين الدوليَين اللذين حضرا الى العيادة النسائية، وهي رسالة عبّر عنها السيد نصر الله، بوقف التعاون مع التحقيق، الذي استمع الى عناصر من الحزب وبتعاون كامل معه، لكن هذا التعاون استُغلّ من التحقيق للتوسع باتجاه التجسس، بعد أن كتب القرار قبل أكثر من عامين، ويتم انتظار الظرف السياسي، والتوقيت الأميركي لاستصداره رسمياً عن المدعي العام للمحكمة دانيال بيلمار، والذي يقول أن قراره لن يكون مسيّساً، لكن في الواقع، هو يخضع للضغوط الأميركية، التي تريد استخدام القرار لأهداف سياسية، وهي وبعد أن تدخّل العاهل السعودي الملك عبدالله، تمّ تأجيل صدور القرار الذي كان متوقعاً في أيلول، الى كانون الأول، ولم يرق للإدارة الأميركية، هذا الأمر، فأرسلت موفدها مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى جيفري فيلتمان الى الرياض، وطلبت من المسؤولين فيها، وقف تدخل الملك عبد الله في إرجاء صدور القرار، لأن لبنان وقع تحت النفوذ الإيراني، ولا بدّ من وقفه، وهذا لا يحصل إلاّ بعد قرار يدين “حزب الله” باغتيال الحريري، وهو سيضعف هذا الحزب شعبياً وسياسياً ويحاصره، ويضعه في مواجهة العدالة الدولية.
هذا الضغط الأميركي المستند الى نفوذ “المحافظين الجدد” داخل مؤسات الحكم الأميركية، دفع بالحريري الى التريث وشراء الوقت، وهو رفض إحالة قضية شهود الزور الى المجلس العدلي، كما لم يتحرك باتجاه رفض تسييس المحكمة الدولية، والتصدي لها إذا كانت ستفجر الأوضاع الأمنية في لبنان، وهو الهدف الأساسي من الجريمة التي أراد المخططون لها الإيقاع بالمقاومة وزجّها في صراع مذهبي، وإنهاء دورها الشريف بالدفاع عن لبنان، وهذا ما أفصح عنه رئيس الأركان الإسرائيلي غابي أشكينازي، الذي بشّر اللبنانيين بحرب داخلية فيما بينهم.
ولمواجهة القرار الاتهامي، فإن “حزب الله” قرّر أن يتصدى للتحقيق المسيّس، فأعلن أمينه العام رفض التعاون معه، كما طلب إلغاء المحكمة الدولية ويشاركه في الرأي عدد كبير من القوى السياسية، التي بدأت ترى في المحكمة اغتيال للبنان، ولإيقاع الفتنة بين اللبنانيين، حيث أكّد النائب وليد جنبلاط أنه مع إعادة النظر فيها، بعد أن تبيّن أن القرارات الدولية التي صدرت، واعتبرت في حينه من قبل “14 آذار” هي لصالح لبنان، اعترف جنبلاط أنها ضده.
من هنا، وضعت كل الخطط من أجل إنقاذ لبنان من الفتنة، بإلغاء أسبابها في المحكمة الدولية، وأن المعارضين لها، سينقلون البحث فيها الى مجلس النواب، وقبل ذلك الى الحكومة، وينتظرون من الحريري موقفاً إيجابياً، فإذا رفض أن يتم بث الموضوع في المؤسسات الدستورية، فإن الشارع سيكون وسيلة للحسم، وقد وضعت المعارضة السابقة، سيناريوهات لذلك، بالسيطرة على الأرض، من أجل منع وقوع الفتنة ومحاصرتها من قبل أطراف قد تستغل صدور قرار ظني يدين عناصر من “حزب الله”.
ويتوقف الوضع على موقف للحريري، الذي عليه أن يعلنه لجهة رفض قرار ظني يفجر حرباً أهلية، فإذا لم يقم بذلك، فإن خروجه من رئاسة الحكومة يصبح أمراً واقعاً، وأن المعارضة السابقة ستلجأ الى استقالة وزرائها، فتصبح الحكومة بحكم المستقيلة، وأن الإستشارات النيابية، ستسمي شخصاً آخر، إذا استمر الحريري على موقفه، وإذا ما حاول تحريك الشارع، فلن ينجح لأن موازين القوى ليست لصالحه، وسيتدخل الجيش لمنع حصول أي اشتباك داخلي.
Leave a Reply