– أحيانا.. بعض الناس تستعين بالكاميرا لتصوير اللحظة العابرة، وبعضهم بالقلم، أما أنا فلدي ذاكرتي هي لا تختلف كثيراً عن تلك التي لديك إلا أنها ذاكرة تصويرية.
– أنا لدي ذاكرة تصويرية أيضاِ يا صديقي واستطيع تذكر ما أراه بتفاصيله، التماثيل البرونزية الفاتنة، الأباريق الجميلة، وجوه الأحياء، عيون الغواني…
– لكن ذاكرتي يا صاحبي تصويرية حركية ولا أغالي إذا قلت انها ثلاثية الأبعاد.. بل لديها القدرة على الاستقراء والتحليل وأن تصبح يوما جزءاً من الصورة أو الحدث وربما الحزن.
– الحزن… ولِمَ الحزن؟ لمَ لا يكون الفرح؟
– ربما لأن حزني أصبح ذاكرة أخرى، أو ربما فقط هي الاحزان وحدها التي تعلق بالذاكرة، سرمدية الى نهاية المطاف، أو لعل القلوب قد إبصرت.
– وما الذي أبصرته تلك القلوب وماذا رأيت؟..
– ماذا رأيت؟…. تسألني ماذا رأيت؟… رأيت وجهه القمري وقد بدا مضيئاً رائقاً، وقد نم ثغره عن ابتسامة جذلاء، بدا نائما كملاك غاف في ختلة سماوية بعيداً عن الأعين.. كانت ابتسامته كماء ثلجي يطفىء نارا موقدة في قلبي. كان قبل غفوته يقهقه وقد ملأ الدنيا ضحكاً، يلعب في زقاق معتم اضيق مطارداً كرة صغيرة بحجم قلبه الوردي الصغير كعصفور فر من قفصه.. وبعدها راحت بقعة حمراء تحت جسده الصغير تتسع لتغطي عيني وعقلي بغشاوة دموية حمراء قاتمة. دم.. دم.. هكذا رددت شفتاي بخلسة خائفة، لم يكن نائماً، كان ينزف دماً وهو ملقى كأقحوانة ديست في مدينة الظلام…
ماذا رأيت؟! في مدينتي مدينة الظلام رأيت غرباناً تطارد عصفوراً غاف في هدهدة الطفولة. رأيت اقنعة سوداء حالكة تصطاد العصافير المغردة بكرات حديدية عمياء لتتساقط واحدة تلو الأخرى لتنمو بعدها تلك الحبات الحديدية الصماء في افئدتهم البيضاء النقية ورداً قان وصراخ.. رأيتهم يصطادون طفلا آخر.
ماذا رأيت؟! رأيت الحياة مدفونة تحت موت هناك على أرضي.. رأيت تلك المرأة ملتحفة عباءة سوداء كامهاتنا. كواحدة منا.. عربية قد مدت آلاف السنوات جذورا في ارضي السمراء، رأيتها تركض ودقات قلبها المتسارعة صداها مسموع يدق اسوار بيوتنا وأزقتنا وحتى قلوبنا الخائفة، كانت تعدو، تذرف دمعاً، تلهث، تصرخ، فتسقط، لتقف، وتسقط مرة أخرى فوق جسده الطفل. تضمه لصدرها، لثدييها، اللذين ما زالا مثقلين بعبير، كماء الحياة، تصرخ؛ ولدي… وطني.
Leave a Reply