الخبر غير قابل للتصديق للوهلة الأولى!
النائب العام المصري يأمر بحبس الرئيس المخلوع حسني مبارك ونجليه جمال وعلاء خمسة عشر يوما على ذمة التحقيق بتهم تتعلق بقتل المتظاهرين والفساد المالي.
الذهن العربي اعتاد على هذا النوع من الملاحقات لأصحاب السلطة في البلدان ذات التقاليد الديمقراطية العريقة. بدت القاهرة الأسبوع الماضي أقرب الى استوكهولم أو امستردام أو واشنطن.
الحدث القضائي المصري غير مسبوق في تاريخ الدولة العربية الحديثة، واسرائيل غير مسرورة بالتأكيد لهذا التطور التاريخي في بلد عربي. “ثورة 25 يناير” التي أطاحت بحسني مبارك ومعظم أركان نظامه هي أول ظاهرة عربية تؤسس لمحاسبة الرؤساء الذين امتلكوا في بلدانهم سلطات “إلهية” وحولوا مواقع الدولة من رأس الهرم الى أصغر مؤسسة حكومية الى هياكل للعبادة “الجماهيرية” ونشروا أصنامهم عند كل مفترق وتقاطع واحتلت صورهم العملاقة واجهات المباني الحكومية، ونفوس الملايين من أبناء الشعب المغلوب على أمرهم والمقموعين منذ لحظة الولادة حتى النفس الأخير.
لم يحتج ثوار مصر الى مساعدة خارجية لإسقاط الرئيس وتحطيم هيكل النظام ثم فرض جلب الرئيس أمام القضاء.
تكلفت عملية اسقاط صدام حسين واعدامه تحطيم الدولة العراقية ونحو مليون قتيل وتشريد خمسة ملايين عراقي في أرجاء المعمورة.
لم تكن ثورة الشباب المصري بلا ثمن، لكنها نجحت بأقل الخسائر الممكنة على الصعيدين البشري والاقتصادي، والأهم أن دماء شهداء الثورة المصرية الثمانماية لم ولن تذهب هدرا. وأمر النائب العام بجلب حسني مبارك ونجليه وهم أقوى ثلاثة رموز للسلطة البائدة يعيد الروح الى الجسد العربي الذي حنطته عقود من الظلم والاستبداد برقاب الشعوب.
لم يكن حسني مبارك حاكما ضعيفا ولم يفتقر الى أجهزة أمنية قمعية تضم مئات الآلاف ممن حولهم النظام الى “كلاب حراسة بشرية” لجبروته وانتزع منهم انسانيتهم ومشاعرهم تجاه أبناء شعبهم وحولهم الى آلة للقتل والتعذيب.
لكن الظلم مهما عتى فإن مرتعه وخيم. ولا يتطلب الأمر سوى ارادة حياة أو إحساس المواطنين أنهم ليسوا قطعانا من الأنعام في ساحات الاستبداد. هكذا شعر المصريون بعد 30 عاماً من الاستلاب ومصادرة الكرامة ورغيف العيش، ومثلهم فعل التوانسة فسبقوهم الى الاطاحة بزين العابدين بن علي، وعلى طريقهم سوف تسير باقي الشعوب العربية في كل بلد حوله الحاكم الى سجن كبير. لن ينجو أحد من هؤلاء الحكام مهما “تشاطر” في تمييز نفسه وبلده عن باقي البلدان التي تهزها الثورات ويترنح “آلهتها” هذه الأيام على صدى صرخات الملايين الذين خرجوا من قمقم الخوف وصار من العبث بل من السخف والسذاجة الاعتقاد بامكان اعادتهم اليه.
وإذا كانت فرص نادرة قد سنحت امام بعض الحكام ولم يحسنوا استغلالها فالوقت مثل السيف اذا لم يقطعوه سوف يقطعهم.
لم يعد يجدي استحضاراً “المؤامرات الخارجية” ولا التلطي وراء فزاعة الارهاب والأصولية والتطرف في عملية تسويق استمرار الاستبداد في أي بلد عربي لدى الغرب لنيل رضاه وتسويغ استمراره لتغييب ارادة الشعوب في العدل والحرية والكرامة الانسانية.
وما لاقاه حسني مبارك لا بد ملاقيه نظراؤه من رموز الاستبداد. فالشعوب العربية ذات ثقافة واحدة ونسيج واحد وحكامها من طينة واحدة والمعادلة قد رست ومن العبث تحويرها أو تبديلها: إما أن تصلح فعلا أو ترحل.
قمة المهزلة أن يتهم شعب بأكمله بالخيانة والعمالة للخارج، وتحديدا للغرب وزعيمته أميركا التي كان لها وله الفضل ولايزال في “تأبيد” الرؤساء والملوك والأمراء في عروشهم.
ثمة مقولة نسبت الى مسؤول استعماري بريطاني، غداة منح مصر استقلالها عن التاج في رده على سؤال: كيف ستتحكمون من الآن فصاعدا بملايين المصريين؟ فأجاب: نحن لسنا بحاجة الى التحكم بالملايين، يكفينا أن نتحكم بشخص واحد في القصر الرئاسي، فنحكمهم جميعهم!
أسقط ثوار مصر هذه المقولة ولو بعد عقود ولم تفلح كل جهود أميركا والغرب في الاحتفاظ بذلك “الشخص” في القصر الرئاسي، الذي تكفل، على حقبات، بالملايين وأخضعهم بالبطش وتوهم أنه قادر على تأبيد استبداده بقوة الخارج، واسترهان الارادة الوطنية للبقاء في سدة العرش.
حسني مبارك في قفص الاتهام، بلا “تدخل خارجي” ولا جيوش جرارة. يا له من زمن عربي جميل!
غبي كل زعيم عربي من طينته (وكلهم كذلك) من لا يتحسس رأسه في هذه اللحظات!
Leave a Reply