الشـرق والغــرب.. أيُّ حـوار نـريـد؟
الحضارة بين الأنْسَنَة والشَيطَنَة
كثيراً ما تتناقض المصالح وتتضارب بين الأمم والشعوب والدول ولتبرير أيّ سياسة عدائية ضد بعضها البعض، تُشنُ الحملات الدعائية ضد طبيعة النظام المضاد كأن يوصف مثلا بالقمع والفساد أو توصف ثقافة وحضارة تلك الدولة بالتخلف أو الهمجية وغيرها من النعوت، وهي دعاية كثيرا ما كانت تخفي وراءها غايات نفعية وموجّهة لخدمة هدف أو مصلحة ما.
الدعاية في السياسة هي عملية تستبق أيّ عمل ما، وهدفها إمّا تجميل تحرك ما وتَوْصيفه بالإنساني أو تشويه عمل مضاد ووصفه بالهمجية وبأنّه شيطاني حتى ولو تشابه العملان والتحركان في المضمون، إنّه بإختصار “فَن” لعبة الدعاية وهو سياسة رائجة في عالم الناس قديماً وحديثاً رغم إختلاف الأزمان والجغرافيا والأساليب والوسائل.
رغم أنّ البشر منذ خلق آدم الى يوم الناس هذا يتنافسون في المعاش والإنتاج والإبداع ويتشابهون في كل شيء: يألمون، يحبّون، يكرهون، ينتجون، يحاربون ويسالمون، إلاّ أنّ ذلك لم يمنع من تنامي عملية التمايز والخصوصية بسبب تفاعل كل مجموعة بشرية، من أصغر تجمّع عائلي الى القبيلة والأمّة مع محيطها الجغرافي البيئي، وتراكم معارفهم بشكل متفاوت كَمّاً وكَيْفاً، وخلال مراحل زمنية مختلفة، وعبر عملية تطويع محيطهم لحاجاتهم المادية والروحية والثقافية المتنامية دائماً.
إنّ التمايز، أو الخصوصية، أو الإختلاف الثقافي والحضاري، ليس صفة سلبية، ولا هو ميزة تعطي حقا لمجموعة دون أخرى، كي تتسلط أو تتفرّد، لا يجب أن يكون الأمر كذلك، إلا أنّ الأمر، للأسف، كان ولازال كذلك.
فعوض أن يتحول تنوع الثقافات والحضارات الى عامل إيجابي للتلاقح وميزة للتعارف والتقارب تحوّل في كثير من الأحيان الى عامل للتعصب والتسلط والصراع والتوتر وتبرير الحروب.
شـرقٌ وغـرْبَـان
الشرق، أي البلاد العربية وماجاورها من البلدان التي تدخل ضمن فضاء منظومة الحضارة العربية الاسلامية، هُوَ هُوَ نفس الشرق بشعوبه وثقافاته وحضارته، فلماذا تختلف إذا النظرة الغربية إليه وإلى شعوبه؟
والجواب، هو أنّ الواقع لم يكن دوماً مقياس الحكم على ثقافة وحضارة الشرق وعلى شعوبه، بل إنّ الغاية والهدف المطلوب تحقيقه في ذلك الشرق، أو الموقف منه، هي التي كانت تحدد غالباً النظرة الغربية إليه. لكن لا بد من الإشارة هنا الى أنّ العالم الغربي، أو الغرب، ليس كتلة واحدة متجانسة لها نفس القناعات والاحكام والمقاييس حيال الشرق. فيمكننا أن نرصد خلال تتبع مراحل اهتمام الغرب ببلاد الشرق أن هناك غربان؛ غرب له نظرة واقعية تتصف بالتوازن والموضوعية واحترام لحضارة الشرق، وله رغبة في مد جسور الحوار والتواصل، ويمثل هذا الغرب غالباً المثقفون والأكاديميون وبعض رجال السياسة ومنظمات المجتمع المدني، وغرب آخر كثير التجنّي ذو نظرة سلبية يزدري الشرق ولا يرى في حضارته إلا التخلف، ويمثل هذا الغرب بعض الساسة وأرباب المصالح الذين لا يرون في منطقة الشرق إلاّ برميل نفط وسوقاً لترويج السلاح.
الغرب الإنساني
في البداية، لا بد من الإشارة الى أن الغرب ليس عالماً منفصلاً عن الشرق، أو أرضاً جديدة اكتشفها الشرقيون، أو أنّ الغربيين بشراً نزلوا من كوكب آخر؛ إنّ التفاعل بين الشرق والغرب بدأ منذ القديم، فجزء من الحضارة الغربية ذو أصول شرقية، فالمسيحية، مثلاً، التي يدين بها أغلب الغربيين، ديانة شرقية، كما أن هناك تفاعلاً ايجابياً بين الشرق والغرب قد بدأ في الفترة التي كانت فيها الدولة الأندلسية بشبه الجزيرة الإسبانية عربية إسلامية، حيث قدم أليها علماء ورهبان من باقي أوروبا مثلوا بواكير الاستشراق الأوروبي ونقل كثيرون منهم علوم وثقافة وحضارة العرب والمسلمين ونشروها في بلاد أوروبا المتاخمة للأندلس، وكذلك فعل علماء غربيون قدموا جزيرة صقلية الإيطالية وجزيرة مالطا في البحر المتوسط، اللتين كانتا لفترات تاريخية من العصر الوسيط جزءاً من دول إفريقية العربية (الدولة التونسية حاليا)، كدولة “الأغالبة” ثم دولة “الفاطميين”. كما كانت الحدود بين الدولة الأموية في بلاد الشام والدولة البيزنطية في تركيا منفذاً لتسرّب التاثيرأت الحضارية من وإلى الدولتين.
لقد استمر التفاعل الانساني بين الحضارة الشرقية والحضارة الغربية عبر عمل كثير من المستشرقين الذين قدموا الى بلاد الشرق في العصور الوسطى ثم الحديثة وترجموا ونقلوا جزءاً مُهمّاً من التراث الشرقي الى بلاد الغرب وعبروا عن إعجابهم بكثير من العلماء والفلسفات والنظم والقيم الشرقية، التي كانت سائدة بالشرق كما كشفوا للعالم عن كنوز الشرق وحضاراته الكثيرة والقديمة التي كانت منتشرة في كل ربوعه، والتي يتجاوز عمر بعضها تسعة آلاف سنة. وقد أكد هؤلاء المستشرقون والباحثون والمستكشفون على أهمية دور الشرق في إغناء الحضارة الإنسانية، وعلى ضرورة بناء جسور متينة للتواصل والحوار بين الشرق والغرب، حوار مبني على احترام خصوصية الآخر الثقافية والحضارية.
الغرب العدواني
الوجه الآخر للغرب لم يكن معنياً بحوار الحضارات والثقافات، ولم يكن الشرق بالنسبة إليه إلا منطقة موارد وثروات باطنية وسوقاً مفتوحاً، وحتى وإن بعثَ الكشّافين والباحثين، فلم يكن الهدف اكتشاف أهمية الحضارة العربية، بقدر ما كان الهدف البحث عن مفاتيح ومسوّغات الدخول الى تلك المنطقة الغنية. وكان البحث يجري لمعرفة مكامن الضعف حتى يسهل عملية دخول المنطقة بأقل التكاليف، ولا بأس أن يقع تجميل الغاية بالحديث عن الرغبة في التعارف والتعاون.
وقد دخلت المنطقة قبل هذه المجموعة الباحثة عن المصالح المادية، بعصور، مجموعة أخرى ذات توجهات دينية، وإن كانت تختلف مع الثانية في الغاية فإنها كانت تشاركها إزدراءها لهذا الشرق ولكن رغبتها المعلنة كانت، بحسب زعمها، هي تطهير أرض الرسالات من “الوثنيين المسلمين”، لذلك فقد جيّشت الغرب وملوكه وسيّرت الحملات العسكرية، الواحدة تلو الأخرى، فيما عرف بالحروب الصليبية والتي كانت بلاد الشرق العربي مسرحاً لها خلال العصور الوسطى. وإن عرفت تلك الحملات الصليبية نجاحاً نسبياً بإقامة إمارات وممالك غربية في بلاد الشام إلاّ أنّ أمرها إنتهى الى زوال، ولم تخلّف إلاّ ذكرىات أليمة لسكان المنطقة الذين عانوا من إحتلال بلادهم، ولو إلى حين.
ولكن الظاهرة الهامّة التي ميّزت تلك المرحلة هي وقفة الشرق مُوحّداً بمسلميه ومسيحيه ضد تلك الحملات. وقد فشلت كذلك الحملات الغربية التالية، وأهمها حملة نابوليون بونابرت الفرنسية على مصر. لكن أخطر الحملات التي دخلت المنطقة كانت تلك التي شنّها الغرب في العصر الحديث، فيما يعرف بـ”مرحلة الإنتداب” (أي الإستعمار)، والتي كان لها أثر سلبي بالغ على منطقة الشرق من جميع النواحي، مما زاد في تعميق الفجوة أمام أي حوار حضاري محتمل خاصة بعدما مارس “الإنتداب الغربي” أبشع أنواع الاستغلال، إقتصادياً وبشرياً، وأوقف نمو وتطور المنطقة حضارياً ضمن محاولات قسرية لإلحاقها حضارياً بالمنظومة الغربية. ورغم سنوات “الإنتداب” التي تجاوزت في بعض المناطق المئة عام خرج “الإنتداب” عسكرياً وظلت المحاولات متواصلة لتركيز تبعية المنطقة للغرب ثقافياً وحضارياً، ولكن هذه المرة عبر قادة ومجموعات ونخب محلية مرتبطة بالخارج.
إلى يوم الناس هذا، لا زالت العلاقة بين الشرق والغرب لم ترق الى المستوى المأمول لتتحوّل فعلاً الى حوار حضاري، وذلك بسبب إستمرار “الغرب العدواني” في إعتماد سياسة العصا الغليظة وتأجيج الحروب وعقلية التعالي والإزدراء لكل ما هو شرقي مع تنامي “الإسلاموفوبيا” نتيجة سياسة ثقافية غربية مُوجّهة من بعض الدوائر التي تُكرّس حوار الصُمّ، وتضغط في إتجاه تعميق الشرخ بين الشرق والغرب، والدفع بالعلاقة الى المواجهة والصراع.
في مقابل هذا المد الغربي المتزمّت، برز وعي متنامي، لدى كثير من النخب والقادة والأحزاب ورجال دولة ومؤسسات المجتمع المدني في الغرب، بفداحة الدفع بعلاقة الشرق والغرب الى مرحلة الصراع والمواجهة وبأهمية تدشين مرحلة جديدة من العلاقات تُؤسس لحوار حضاري بناء ومسؤول.
إنّ العالم لن يتغلب على قوى الشر والتزمت والاستغلال ليسود السلام فعلا، إلاّ إذا أيقن القائمون على مصائر الدول والبشر، شرقاً وغرباً، أنّ البحث والإستكشاف يجب أن يكون مدعاة للتقارب، لا لخدمة المآرب وأن الاختلاف لا يعني ضرورة الخلاف وأنّ تبادل الخبرات لا يعني نهب الخيرات وأنّه كما أنّ هناك مصالح دائمة يجب أن يكون هناك صداقات دائمة كذلك.
Leave a Reply