«تسميم» العلاقات مع روسيا .. الأسباب والتداعيات
جنّ جنون الغربيين. فالمعادلات الجيوسياسية التي رسمها فلاديمير بوتين في مطلع آذار (مارس) الحالي، والتي بلغت ذروتها في الكشف عن أحدث منظومات التسليح الاستراتيجية الروسية، والانتصار الساحق الذي حققه في انتخابات الولاية الرئاسية الرابعة، بتأييد شعبي غير مسبوق، دفع بريطانيا، ومن خلفها الولايات المتحدة، إلى شن «حرب دبلوماسية» ما زالت رحاها دائرة على خط موسكو–بروكسل–لندن–واشنطن.
قرارات الطرد الجماعية للدبلوماسيين الروس، لا يبدو أنها متصلة بقضية الجاسوس سيرغي سكريبال، الذي جرى تسميمه، بجانب ابنته يوليا، على الأراضي البريطانية، فالمؤشرات السياسية تشي بأنّ الأمر يتعلق بمحاولات لفرض مزيد من الضغط على روسيا، التي كرّست خلال الفترة الماضية، حضورها القوي على الساحة الدولية من خلال الميدان السوري، وستعمل خلال السنوات الست المقبلة من ولاية بوتين على تعزيز ما تحقّق من إنجازات داخلية وخارجية.
بهذا المعنى، لا يمكن قراءة قضية تسميم سكريبال خارج السياق السياسي وردود الأفعال الأميركية والبريطانية والأوروبية عموماً، مما يطرح علامات استفهام حقيقية –يتجاهلها الغرب– بشأن الجهة المستفيدة من تلك الجريمة الغامضة، وبالتالي الجهة الحقيقية التي قامت بتنفيذها.
كان ملفتاً أن إثارة المسألة في الأساس، جرى قبل أيام قليلة من الانتخابات الرئاسية في روسيا. ولا يخفى على أحد أن أجهزة الاستخبارات في الغرب، ولا سيما حين يتعلق الأمر بوكالتي الـ«سي آي أي» الأميركية و«أم آي 6» البريطانية، لها تاريخ حافل بعمليات التخريب السرية، الهادفة إلى تحقيق حالة من عدم الاستقرار في مختلف دول العالم.
وكان واضحاً أن قضية سكريبال قد صارت حديث الإعلام الغربي عشية فتح صناديق الاقتراع في روسيا، في ١٨ آذار، وهو ما ردّ عليه الروس بحشد انتخابي ملفت، جعلهم يتهافتون على مراكز التصويت، ليجددوا ثقتهم برئيسهم، بنسب تصويت ومشاركة قياسية، وهو ما دفع الصحافة البريطانية، في اليوم التالي، إلى شن هجوم حاد على حكومتها، محمّلة إياها مسؤولية هذا الانتصار التاريخي، لكونها ببساطة «لا تعرف الروس جيّداً».
البعد السوري
ومن جهة ثانية، فإنّ تزامن إثارة قضية سكريبال مع التطوّرات الجارية في سوريا، وخصوصاً بعد الهجوم الكاسح الذي أطلقه الجيش السوري، بدعم روسي، لتحرير الغوطة الشرقية، لم يكن من قبيل الصدفة.
ولعلّ متابعة مجريات جلسة مجلس الأمن الدولي الخاصة بتلك القضية، يمكن أن تقدّم إجابات كافية على حيثيات المسألة وخلفياتها، فالمندوبة الأميركية، نيكي هايلي، على سبيل المثال، اتخذت من تسميم الجاسوس الروسي المنشق بغاز سام، منطلقاً للهجوم على روسيا، من البوابة السورية، حيث اتهمتها بـ«التغطية» على الملف الكيميائي في سوريا، ومطالبة بتدخل دولي حازم في هذا الإطار.
حرب دبلوماسية
حلف شمال الأطلسي بدوره، اتخذ لهجة غير مألوفة، حين اعتبر، وللمرة الأولى، أن تسميم الجاسوس سكريبال «اعتداء مباشر» من قبل روسيا على دولة عضو في «الناتو»، دافعاً أجواء التوتر مع روسيا الى طريق نقطة الذورة.
هذا التصعيد مرشح لأن يتخذ حركة تدحرج كرة الثلج، وهو ما بدأ بالفعل حين استنفرت بريطانيا الولايات المتحدة، الدول الأوروبية، وحكومات أخرى تدور في فلكها مثل استراليا وكندا، إلى اتخاذ قرارات بطرد دبلوماسيين روس، في إطار «حرب دبلوماسية»، لا شك في أن روسيا ستقابلها بالمثل، ما يفتح أبواب الصراع على مصاريعها، خصوصاً قبل أشهر قليلة على مباريات كأس العالم لكرة القدم، التي تستضيفها المدن الروسية، والتي تأمل حكومة الرئيس فلاديمير بوتين أن تكون فرصة لتلميع صورة روسيا وضخ مزيد من الأموال، بالعملة الصعبة في عجلتها الاقتصادية.
ومع ذلك، فإنّ التداعيات المرتقبة لهذه «الحرب الدبلوماسية» ستترك أثرها على مجمل الملفات الملتهبة بين روسيا والغرب على الكثير من نقاط التوتر في العالم، لا سيما في سوريا وأوكرانيا.
أسباب التصعيد
ويتفق المحللون الروس على أن أحد أسباب هذا التصعيد ضد روسيا، هو أن موسكو أجهضت التدخل الغربي في سوريا مع صمود نظام الرئيس بشار الأسد وإفشاله مخططات التقسيم النهائية، التي بدأت في مطلع العام 2011.
علاوة على ذلك، يبدو الأمر محاولة من قبل الأميركيين خصوصاً، والغربيين بشكل خاص، على تعويض الفشل الهائل الذي شهدته المخططات «الأطلسية» خلال الأشهر الماضية، حين أحبطت روسيا جهوداً أميركية–فرنسية للعزف على ملف السلاح الكيميائي السوري المزعوم، عنواناً للتدخل في سوريا، علاوة على المتغيرات التي شهدتها جبهات القتال من محيط دمشق، وصولاً إلى الشمال السوري، ناهيك عن الردع الروسي للعدوانية الإسرائيلية، والعجز الأميركي في تحقيق أي اختراق عسكري.
ولكنّ هناك أسباباً أخرى، أهمها ما يتصل بعودة شبه جزيرة القرم إلى روسيا. فقد كان واضحاً، خلال الفترة الماضية، أن سياسة العقوبات التي انتهجها الاتحاد الأوروبي قبل أعوام، على خلفية الملف الأوكراني، باتت تواجه بمعارضة من قبل حكومات أوروبية عدّة، حتى أن بعض القادة الأوروبيين طلب إلغاء هذه العقوبات، لما لها من تأثير اقتصادي سلبي، فكان لا بد من عنوان آخر.
وعلى هذا الأساس، فإنّ واحداً من أهداف التصعيد الأميركي–البريطاني، هو إثارة الأوروبيين مجدداً، من خلال قضية مشبوهة كجريمة تسميم سكريبال، لمنع أي تقدّم على طريق رفع العقوبات، خصوصاً أن بريطانيا، التي هي في طور الخروج من الاتحاد الأوروبي، بعد استفتاء «بريكست»، تملك الكثير من الحيثيات لممارسة أعمال تشويشية كهذه.
ماذا بعد؟
وإذا كانت بريطانيا والولايات المتحدة قد نجحتا حتى الآن في «تسميم» العلاقات الغربية–الروسية، فالسؤال المحوري يبقى حول التداعيات المحتملة لكل ما يحدث على المشهد العالمي، ولا سيما في القضايا الشرق أوسطية، وفي القلب منها الملف السوري.
حتى الآن، تقارب روسيا الهجوم الغربي بثبات انفعالي واضح، تبدّى في خطوات الرد المتدرج على طرد السفراء، عملاً بمبدأ المعاملة بالمثل، مع بعض الإجراءات الإضافية، ذات الرمزية البالغة، على المستوى الدبلوماسي.
وأمّا الرد الأهم، فيبقى بعيداً عن خطابات الدبلوماسية، وهو تجلى بحشد انتخابي هائل في شبه جزيرة القرم، التي صوّت أبناؤها بنسبة فاقت التسعين بالمئة لصالح فلاديمير بوتين في الانتخابات الرئاسية، في ما يمكن وصفه بـ«الاستفتاء الثاني» على الانضمام إلى روسيا، وهي خطوة من شأنها أن تسحب هذا الملف من بورصة المزايدات الغربية.
وعلى خط موازٍ، ثمة رد آخر، كان هذه المرة في سوريا، حيث اكتملت عملياً خطة تحرير الغوطة الشرقية من المسلحين، وفق تسويات رعاها الجانب الروسي مباشرة، ومن شأنها أن تخلق أمراً واقعاً جديداً في الميدان، يفرض نفسه على كل اللاعبين الدوليين ويجرّهم إلى طاولة المفاوضات مجدداً، أملاً بوقف النزف الاستراتيجي الذي تكبّده الغربيون، ولا يزالون، منذ انطلاق الحملة العسكرية الروسية في سوريا في خريف العام 2015، بعد أربع سنوات من صمود سوريا بوجه أعتى المخططات التخريبية والتقسيمية للمنطقة.
ولعلّ ما يزيد هذا السيناريو ترجيحاً، هو أن بعض الدول الغربية، بدأت تغرّد خارج سرب الضغوط، وهو ما فعلته النمسا، على سبيل المثال، حين أبدت رفضاً قاطعاً للضغوط البريطانية لجرّها نحو طرد دبلوماسيين روس، على خلفية قضية سكريبال، والحديث الإيطالي والفرنسي المتجدد عن ضرورة حل الخلافات مع روسيا بالحوار، وكلام السفير الأميركي لدى موسكو، بأن «باب الحوار» يجب أن يبقى مفتوحاً.
غير أن الرد الروسي –بالمثل– بطرد ٦٠ دبلوماسياً أميركياً من روسيا وإغلاق القنصلية الأميركية في سان بطرسبرغ، لا يشي بأن الحرب الدبلوماسية ستأفل قريباً، حيث جاء رد الخارجية الأميركية بالقول إن قرار موسكو يشير إلى أنها «ليست مهتمة بالحوار في القضايا المهمة».
باب التسوية
حتى الآن، بدا ملفتاً أن أجواء التصعيد الغربي–الروسي، لم ترخ بظلال قاتمة على واحد من أكثر الملفات الدولية خطورة، وهو الملف النووي الكوري الشمالي، في ظل حديث عن قمة مرتقبة تجمع الكوريتين والصين والولايات المتحدة وروسيا.
ومع ذلك، فإنّ ملامح الاشتباك السياسي، خصوصاً في الشرق الأوسط، تبقى رهناً بالخيارات التي سيتبعها دونالد ترامب خلال الفترة المقبلة، في ظل مؤشرات مثيرة للقلق، أبرزها عودة الصقور، أمثال جون بولتون، إلى البيت الأبيض، بما يعنيه ذلك، من عودة لسياسات العدوان، التي شهدها العالم قبيل غزو العراق في العام 2003.
برغم ما سبق، فإنّ الكل يدرك أن العالم اليوم أصبح متغيراً، قياساً إلى ما كان عليه قبل 15 عاماً، وبالتالي فإنّ الكثيرين ما زالوا يراهنون على تسويات هنا أو هناك، وهو ما سيتضح بعد أسابيع قليلة، حين يحسم دونالد ترامب قراره بشأن الاتفاق النووي مع إيران… وفي هذه الحالة وحدها، سيتضح ما إذا كان المشهد الدولي سيسير على طريق التفجير… أم أن قواعد الاشتباك ستبقى على ما هي عليه إفساحاً في المجال لتسويات قادمة؟
26 دولة غربية تطرد 143 دبلوماسياً روسياً .. وموسكو ترد بالمثل
أعلنت 26 دولة عن طرد دبلوماسيين روس، رداً على حادث تسميم العميل الروسي المزدوج السابق، سيرغي سكريبال، في المملكة المتحدة.
ووفقاً للمعلومات أعلنت الدول الـ26 عن طرد 143 دبلوماسياً روسياً، ومن المتوقع أن تزداد هذه الأعداد في الأيام المقبلة.
وبدت تلك الدول مقتنعة بأن روسيا تقف وراء محاولة قتل «سكريبال»، وابنته «يوليا» في بريطانيا مطلع الشهر الجاري.
وفي 4 آذار (مارس) الجاري، اتهمت بريطانيا روسيا بمحاولة قتل سيرغي سكريبال (66 عاماً) وابنته يوليا (33 عاماً)، على أراضيها، باستخدام «غاز الأعصاب»، ما أشعل أزمة دبلوماسية بين البلدين. ولا يزال سكريبال وابنته، في المستشفى في حالة حرجة.
وإثر ذلك، تبادل الجانبان اتخاذ إجراءات عقابية بينها طرد دبلوماسيين، كما أعلنت عدة دول غربية، إضافة إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو)، تضامنها مع الجانب البريطاني.
وجاء طرد الدبلوماسيين الروس في عدة دول بعد طرد 23 دبلوماسياً روسياً من المملكة المتحدة في 14 آذار (مارس) الجاري. وردت موسكو في المقابل بطرد 23 دبلوماسياً بريطانيا من أراضيها، وإغلاق المركز الثقافي البريطاني.
كما طردت الولايات المتحدة 60 دبلوماسياً روسياً، (48 من واشنطن و12 من الأمم المتحدة)، وقالت واشنطن إنهم كانوا يعملون كضباط استخبارات، كما أمرت بإغلاق قنصلية موسكو في مدينة سياتل بولاية واشنطن.
وفي إطار الرد بالمثل، أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الخميس أن بلاده ستطرد 60 دبلوماسياً أميركياً وستغلق قنصلية الولايات المتحدة في سان بطرسبورغ.
مقاطعة كأس العالم
بالإضافة إلى ذلك، أعلنت العديد من الدول أنها ستقاطع دبلوماسياً بطولة كأس العالم لكرة القدم التي ستقام في روسيا الصيف المقبل.
وفي حين أعلنت أيسلندا وبولندا بشكل علني عن مقاطعة دبلوماسية لفعاليات كأس العالم لكرة القدم، قالت كل من أستراليا والدنمارك والسويد واليابان إنها ستدرس مثل هذه الخطوة.
وكانت روسيا قد نفت عدة مرات أية علاقة لها بحادثة تسميم سكريبال، مؤكدة أنها تخلصت من كل الأسلحة الكيميائية لديها.
Leave a Reply