إنها أقنعة هذه الثياب الأنيقة والملابس الفاخرة وتسريحات الشعر بألف لون ولون والإكسسوار والجواهر الأصلية والمقلّدة وأطنان من الماكياج التي تغطي بعض الوجوه الباهتة التي عليها قترة وترهقها غبرة.
هذا ما قلته في سرّي، وغصة تخنق كلماتي، عندما سولّت لي نفسي الأمّارة بالسوء للدخول إلى حمام إحدى القاعات الفاخرة حيث كنت أحضر حفلة زفاف عروسين حبيبين إلى قلبي. دخلت الحمام لأغسل يديّ بعد تناول عشاء شهي، وقبل إلتهام الحلوى ذات المنظر المغري، الخلاب والتي تؤنبك إن لم تذقها وتجعلك تلعن أبو الدايت والريجيم وأخواته أجمعين. ولعل أذناي ترتاح قليلاً من سماع المطرب المبحوح. الذي اخطأ ودخل ميدان الغناء ليكون زميلاً لوديع الصافي وجورج وسوف وصولاً إلى فريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب.
وجاء الليلة يعاقبنا بمساعدة فرقة الموسيقة والكيبورد، إضافة لمكبر الصوت الناعق الزاعق بالويل والثبور وعظائم الأمور حيث لم يخرج أي فقيرٍ من عباد الله الموجودين تلك الليلة بأذنين سليمتين، غير مثقوبتين، عقاباً وتأديباً للجمهور الحاضر الغائب وعدم الإصغاء «الإستمتاع» بكل هذا الإزعاج من زعيق وصراخ المطرب – المغني المهيوب وفرقته اللاموسيقية وقرع طبول الحرب وكأن أبو زيد الهلالي يستنفر القوم للقتال والنزال، ونسي زميل عبد الحليم حافظ إنه في عرس وهناك عروسان شابان جئنا للإحتفال بهما الليلة ولم نأتِ لسماع قرع الطبول وصوته النشاز يطلب من الحاضرين بالتفضل والجلوس، وأخذ الأماكن تمهيداً لبدء الـ«بروغرام»، زاد ذلك صوته خشونة والبحة اللعينة أبت أن تفارق زلاعيمه، وطغى على صراخه بمساعدة مكبرات الصوت المبثوثة في الجهات الأربع صوت الثرثرة النسونجية الغير بريئة والتي لا تخطئها أنتينات الآذان خلال نشرة الأخبار الإجتماعية خاصة بعد تناول الطعام الدسم وإختناق الأوكسجين بالروائح المختلفة وتطاير الأخبار من طاولة لطاولة، عبر السلامات والإحتضانات التي زادتها المناسبة حرارة صوتاً وصورة: هذا فلان خرج من قفص الزواج بالطلاق أو الإنفصال؟ وذاك الذي زرع صلعته وهرب من زوجته، وهناك الذي نام البارحة في مركز البوليس ليلته. ولم يسلم الشاب الخنفوس الحرقوص وأصحابه الراكبون قطار الموضة والستايل بالمقلوب: في قلة الواجب ونتف الحواجب وتطويل الشعر وفتح القمصان لتتدلى السلاسل على شعر الصدر. هناك في البعيد يجلس أحدهم في آخر كرسي بالقاعة وبعلته تجلس في أول الحفل، يجلس هناك خجلا وحياءاً لأنها مسكته بالجرم المشهود يدخن الأركيلة «الملغومة» مع أحدهم الذي «سمعته مثل هيأته.. مش ضابطة»! أما ذلك المنفوخ العبقري الفهيم الذي صار من أصحاب العقارات والمحطات وملايين الدولارات كونه يتحلى بكل صفات الحيل والشطارة في الغش والزعبرة، لم تقدر حرمته أن تطحنه وتعجنه مخلوقاً أقل سماجة وغلاظة! وتجعله على مسمع ومرأى من المطرب المسكين وهو يغني وكأنه يعاني من المغص في أمعائه تشمر النشرة الستانية وتلتقط سماعات الأذن الحديث عن تلك الست الطويلة العريضة التي شفطت دهونها لتبدو أصغر وأنحف بعد إخفاق ذريعٍ بأتباع كل أنواع الدايت. وتلك التي قصرت منخارها ونفخت شفتيها ولم يعد يعجبها زوجها فحطت عينها على جارها! وتلك السيدة محتارة كيف بدها تجوز بناتها، فتجرهن وراءها وإلها قرص في كل عرس. أما هؤلاء الفتيات الصغيرات الجميلات، يتنقلّن بغنج ودلال كالبراعم يغازلهن نسيم نيسان المنعش من طاولة لأخرى، «يا لطيف كيف بيمشوا وما بيسلموا على حدا! ياي شو بلا أدب»؟! هذا ما تقوله إحداهن لأحدهم والغيرة تنهش صدرها العامر، مرارة وحسرة على أيام زمانها المنتهية صلاحيته وصارت مركونة على حافة العمر مثل تحفة قديمة لا تثير إنتباه أحد من الغلمان والغلامات بالنظر إلى طلتها المشوهة بالأصباغ وقامتها التي تنوء بحمل الدهون والشحوم.
كل هذه الأنباء والخبريات، مضافاً إليها الملاحظات والتعليقات، وأصوات الموسيقى النشاز ما زالت تعذّب السامعين وتعلو فوق صوت المغني المحبوب الذي كأنه يعاني من الأنفلونزا المزمنة. حتى العروس والعريس والأقربين لهم من الأهل والأخوة والأخوات، لم يسلموا من التمتمة والوشوشة والنميمة بين إستحسان وإستهجان. وبالطبع هذا كله في طبيعة بني آدم البشر بين قادحٍ ومادحٍ. وهذه الأخبار الطف من أخبار التلفزيونات التي تسر العدو ولا تسر الحبيب. سكت الجميع عندما توجه العروسان لقطع قالب الكيك وتبادل لقمة السعادة وشرب نخب الزواج السعيد فوقف الناس يصفقون ويهللون، وعلت الزغاريد، وجرت دموع الأهل فرحاً ودقت القلوب فرحاً وعلت الحناجر مهنئة ومتمنية لهما الرفاه والسعادة والعيون ترافق العروسين إلى الكوشة ليرتاحا بعد يوم طويل متعب قضياه في الإبتسام لكاميرات وفلاشات التصوير. وفقرة الرقص الطويلة مع الأصدقاء والصديقات كل شيء في القاعة كان منسقاً ومرتباً. الديكور والزهور ما عدا صوت المغني وفرقته التي جاهرت في الطنطنة لتغطي صوته النشاز وصوت الثرثرة والنميمة من السادة والسيدات إستأذنت ممن كانوا معي على الطاولة للذهاب إلى الحمام، وهناك راعني ما رأيت.
الحمام السيراميك قمة في القذارة، الماء مرشوش في كل مكان، وأوراق المناديل مقطعة ومرمية على الأرض وفوق الأحواض رغم وجود الكثير من الحاويات لرميها. هناك بعض حفاظات الأطفال مرمية على الأرض. هذا عدا عن صراخ السيدات والبنات والعانسات وهن يتكلمن بأصوات أدنى ما تكون منافية للذوق والسمع كنت أعتقد أن أذناي سترتاح قليلاً من سماع الأصوات النكرة داخل الصالة.
رفعت طرف ثوبي حتى لا يبتل من الماء القذر وعيناي ما زالتا تنتقلان مذعورتين في أرجاء المكان، حتى أستقرتا على المرآة وشاهدت قطيعاً من الستات، هذه تصلح مكياجها وتلك تتحدث مع صديقتها أخريات يتكلمن بالهواتف النقالة بأصوات عالية ونكرة، ونظرت إلى وجهي بالمرآة وأقفلت فمي دهشة وإستغراباً لما يحدث.
خرجت مسرعة من المكان الذي هو مفروض أن يكون بيت الراحة، وأنا ما زلت أشعر بالأسى والصدمة، لم أعد أسمع صوت المغني وبحته الغير مهضومة. سمعت طنيناً موجعاً في أذناي يدين كل سيدة أو آنسة تمر من أمامي. إنها أقنعة الملابس الفاخرة والعطور الباريسية، والماكياج والأكسسوار، هي مجرد أقنعة تخفي وراءها سلوكاً مجرداً من الذوق الإنساني.
لا أدري ماذا يحدث للإنسان، لو تصرّف بنظافة وكياسة وحضارة، وفكّر في الآخرين كما فكر هو في نفسه. لو إستعمل كل من يمشي على قائمتين من الناس هذا الأسلوب في التفكير والتطبيق، لانتهت مشاكلنا وانحلت. هذا الموقف أخبرته شخصياً وأنا أشارك فرحة أحباء حميمين إلى قلبي، ودعوني لحضور حفل زفاف ولديهما. وكوني متأكدة أن هذه النوعية من السوك، للأسف، منتشرة في أكثر من مكان وعلى أكثر من صعيد، لكن صدمني وأغاظني وأدهشني بشدة أن يحدث ذلك في تلك القاعة الجميلة الأنيقة. حتى في حماماتها الواسعة والخدمات المتوفرة فيها.
بدأت كتابة هذه الأسطر وكلي غيظ وأنا أتذكر تلك الأغاني الركيكة التي كان يؤديها صوت المطرب المزكوم. وانتهيت وأنا أشعر بالخيبة!
Leave a Reply