صبحي غندور
سيأتي يوم، ربّما بعد قرنٍ من الزمن، يتساءل فـيه العرب من جديد عمّا حدث فـي مطلع القرن الحادي والعشرين من خديعة دولٍ لهم بوعودٍ بديمقراطية أنتجت دويلاتٍ طائفـية تسبح فـي الفلك الإسرائيلي، وسيكون هناك أكثر من «شريف حسين وأمير فـيصل» وحركات وجماعات يعقدون اتفاقاتٍ وتفاهمات مع قياداتٍ غربية وصهيونية، فقط كي تكون لهم حصصٌ فـي الحكم حتّى على أنقاض أوطان.
القائم الآن على أرض الواقع فـي أزمات المنطقة العربية هو فقط الحروب الأهلية المدمّرة. وفقط إسرائيل هي التي ستحصد نتائج صراع القوى الإقليمية العربية والإسلامية، والذي ينحدر أكثر الآن نحو مستنقع الطائفـية والمذهبية بأبشع صوره. فالعرب والمسلمون الآن إلى مصيرٍ مجهول، وقد تشهد المنطقة من جديد ما شهدته منذ مئة عام من رسم خرائط جديدة، ومن مراهنات على الخارج، ومن حصد صهيوني لهذه المتغيّرات، بينما العرب منشغلون بأنفسهم وبخلافاتهم ..
فلا بارك الله بالأموال الطائلة التي يتمّ دفعها الآن لكلّ جماعةٍ أو لكلّ كاتبٍ ومفكّر وإعلامي ودبلوماسي ومحلّل سياسي أو «عالم دين» يدعو لتأجيج الصراعات الطائفـية والمذهبية والإثنية فـي البلاد العربية، ويسكت عمّا يحدث فـي الأمّة وأوطانها من إشعالٍ لحروبٍ أهلية، ومن تشويهٍ لحقائق الصراعات، ومن تفتيتٍ للأوطان تشارك فـيه قوًى حاكمة ومعارضة.
لقد ترسّخت فـي العقود الأربعة الماضية جملة شعارات ومفاهيم ومعتقدات تقوم على مصطلحات «الإسلام هو الحل» و«حقوق الطائفة أو المذهب»، لتشكّل فـيما بينها صورة حال المنطقة العربية بعد ضمور «الهويّة العربية» واستبدالها بمصطلحاتٍ إقليمية ودينية وطائفـية. وهكذا تمتزج الآن على الأرض العربية مشاريع تدويل أزماتٍ داخلية عربية مع مخاطر تقسيم مجتمعاتٍ عربية، وسط رياحٍ عاصفة تهبّ من الشرق الإقليمي ومن الغرب الدولي، ومن قلب هذه الأمّة حيث مقرّ المشروع الصهيوني التقسيمي.
للأسف، يعيش العرب اليوم عصراً أراد الفاعلون فـيه، محلياً وخارجياً، إقناع أبناء وبنات البلاد العربية أنّ مستقبلهم هو فـي ضمان «حقوقهم» الطائفـية والمذهبية، وفـي الولاء لهذه الدولة أو تلك، ولهذا المرجع الطائفـي/المذهبي أو ذاك، بينما خاتمة هذه المسيرة الانقسامية هي تفتيت الأوطان والشعوب، وجعلها ساحة حروب لقوى دولية وإقليمية تتصارع الآن وتتنافس على كيفـيّة التحكّم بهذه الأرض العربية وبثرواتها. وهناك حتماً أكثريّة عربية لا تؤيّد هذا الطرح «الجاهلي» التفتيتي ولا تريد الوصول إلى نتائجه الوخيمة، لكنّها أكثرية «صامتة» إلى حدٍّ ما، ومن يتكلّم منها بجرأة يفتقد المنابر الإعلامية والإمكانات المادية، فـيبقى صوته خافتاً أو يتوه هذا الصوت فـي ضجيج منابر المتطرّفـين والطائفـيين والمذهبيين الذين هم الآن أكثر «حضوراً» فـي وسائل الوصول إلى الناس.
إنّ مسؤولية تصحيح الأوضاع القائمة الآن فـي المنطقة العربية، هي مسؤوليةً شاملة معنيٌّ بها الحاكم والمحكوم معاً فـي كلّ البلاد العربية. ومن المهمّ طبعاً تصحيح البنى الدستورية والسياسية ليجد كلُّ مواطن حقّه فـي الانتماء الوطني المشترك، ولكي يعلو سقفه إلى ما هو أرحب وأوسع من سقف الانتماءات الفئوية الضيّقة. وهي أيضاً مسؤولية قوى المجتمع المدني والمؤسسات الفكرية والسياسية والمنتديات الثقافـية وعلماء الدين ووسائل الإعلام العربية المتنوعة، فـي التعامل الوطني السليم مع الأحداث والتطورات، وفـي طرح الفكر الديني والسياسي الجامع بين الناس، لا ذاك الداعي إلى الفتنة بينهم.
هناك الآن حاجةٌ قصوى لوقفةٍ مع النفس العربيّة قبل فوات الأوان، وهناك حاجةٌ إلى فكر عربي جامع يتجاوز الإقليميّة والطائفـيّة والمذهبيّة والقبلية، ويقوم على الديمقراطيّة ونبذ العنف واعتماد مرجعيّة الناس ومصالحهم فـي إقرار الدساتير والقوانين… وهناك حاجةٌ ملحّة للفرز بين «المعارضين العرب» لمعرفة من يعمل من أجل الحفاظ على النسيج الوطني الواحد، ومن يعمل من أجل كانتونات فـيدراليّة تحقّق مصالح فئوية مؤقتة… وهناك ضرورةٌ عربيّة وإسلاميّة للتمييز بين من «يُجاهد» فعلاً، فـي المكان الصحيح، وبالأسلوب السليم، ضدّ الاحتلال وأهدافه، وبين من يخدم المحتلّ سياسياً وأيضاً مشاريع الحروب الأهليّة العربيّة… وهناك حاجةٌ لبناء تكامل عربي بين أوطان الأمّة الواحدة، تكامل يقوم على احترام الخصوصيات المتنوعة، وعلى أسس سليمة فـي الحكم والمواطنة…
قبل قرنٍ من الزمن، عاشت البلاد العربية حالةً مماثلة من التحدّيات ومن مواجهة المنعطفات الحاسمة، لكن قياداتها لم تُحسن آنذاك الخيارات، فدفعت شعوب المنطقة كلّها الثمن الباهظ. عسى ألا تتكرّر الآن مأساة الأمّة العربية بالسقوط فـي هاوية تقسيم جغرافـي جديد، يتمّ فـيها رسم الحدود بالدّم الأحمر للشعوب، لا فقط بالحبر الأسود للقوى الإقليمية والدولية المهيمنة!.
دروس التاريخ تعلّمنا أنّ المنطقة العربية هي نهرٌ جارف لا بحيرة راكدة. وهذا ليس بخيار لأبناء هذه الأمَّة، بل هو قدَرُها المحكوم بما هي عليه من موقع استراتيجي مهم، وبما فـيها من ثرواتٍ طبيعية ومصادر للطاقة، وبما فـيها من أماكن مقدّسة لكلِّ الرسالات السماوية. ثمّ إنّ الصراعات بين القوى الإقليمية والدولية وتنافسها على المنطقة العربية، يزيد من هدير هذا النهر الجارف فـي المنطقة. فالسؤال إذن هو ليس حول حدوث التغيير فـيها أو عدمه، بل عن نوعيّة هذا التغيير ومواصفاته واتجاهاته، وعن أطرافه المستفـيدة أو المتضرّرة من نتائجه، سواء محلّياً أو خارجياً. فالصراعات والتحدّيات وحركة التغيير، هي قدَر الأرض العربية على مدار التاريخ، لكن ما يتوقّف على مشيئة شعوبها وإرادتهم هو كيفـيّة التعامل مع هذه التحدّيات، وهو أيضاً نوعية التغيير الذي يحدث على كياناتها وفـي مجتمعاتها.
صعوبة الظرف وقلّة الإمكانات وسوء المناخ السياسي والإعلامي المسيطر، تلك عناصر لا يجب أن تدفع من يرفضون واقع العرب اليوم، لليأس والإحباط، بل إلى مزيدٍ من المسؤولية والجهد والعمل. فالبديل عن ذلك هو ترك الساحة تماماً لصالح من يعبثون فـي وحدة بلدان هذه الأمّة ويشعلون نار الفتنة فـي رحابها.
بعض الناس (كأفرادٍ أو كجماعات) تكون إرادتهم مُسيّرة من قِبَل آخرين، بفعل ظروف الحاجة أو بسبب الضغوط وعناصر القوة التي تفرضها إرادة أولئك البعض من المتمكّنين بالمال أو بالسلطة، وفق ما يُعرف بمصطلح «الترغيب والترهيب» أو «القدرة على المنح والمنع». وهنا يحصل الفارق، بين منْ تكون إرادتهم الذاتية مشلولة ويعيشون حياتهم فـي خدمة إرادة آخرين، وبين من تكون إرادتهم حرّة لكن يعانون من «الترهيب أو المنع». ويحصل هنا أيضاً الفارق بين من يرتضون العيش فـي حالة الرضوخ لإرادة الآخرين، فتكون إرادتهم مُهمَّشة، حتّى لو لمعت أسماؤهم فـي وسائل الإعلام، وبين من يرفضون هيمنة الآخرين على إرادتهم، ويصرّون على مواجهة الواقع المرفوض رغم كلّ العقبات.
إنّ المعيار السليم هو منطلَق الإنسان ومبادؤه، وليست النتائج التي تترتّب على هذا المنطلق والمبادئ، حيث يسقط هنا شعار: «الغاية تبرّر الوسيلة». فلا يجوز مثلاً لكاتبٍ أن يجعل «قلمه» مرهوناً فقط لإرادة الآخرين من أجل تأمين «بحبوبة العيش» أو بحثاً عن الشهرة أو عن «الأمان الجسدي». هو أمرٌ مشابهٌ تمام الشّبه، بين إنسانٍ حرٍّ فـي تفكيره وعمله وإرادته غير أنّه بسبب حرّيته هذه معتقَلٌ فـي سجن، وبين آخر طليق لكنه مستعبدٌ من قِبَل آخرين رغم أنّه يملك جاهاً أو مالاً أو سلطة. فمَن، فـي هاتيْن الحالتين، هو «الإنسان الحر»؟!
Leave a Reply