يقتضي العمل أن أذهب إلى مدنٍ عديدة حول ديربورن، وفي يوم من الأسبوع الماضي، توقفت بي السيارة في حي في مدينة كانتون. كان البرد قارساً والرؤية عسيرة وليس معي تلفون. فتجرأت وطرقت أول باب منزلٍ فيه ضوء. فتحت لي صبية لطيفة، إعتذرت لها بشدة وطلبت منها السماح لي بـ«الإتصال بصديق» يساعدني في تبديل دولاب السيارة الذي حلا له النوم الإسترخاء في هذا الطقس البارد القارس.
قالت لي أهلاً وسهلاً بالعربية، طالبة مني الدخول. كانت صبية عربية، رقيقة ورشيقة.. فيما كنت أكرر إعتذاري وأسفي لإزعاجها..
شعرت بالخجل منها لكن ذوقها وإصرارها على أن أشرب معهم اليانسون مع القرفة والزنجبيل والنعناع جعلني أقول لها: لقد ذكّرتِني بالضيعة!! فكيف بصبية صغيرة جميلة مثلك لازالت تتبع «الأسلوب القديم» في تحضير شراب ساخن وصحي في البيت؟ فأجابتني أن زوجها يشكو من الرشح الخفيف وهي تدّلله بعمل هذا الشراب الساخن، لتشعره بحبها وعنايتها به.
قلت لها: من أين لك كل هذه الشطارة والنضارة واللمسات البسيطة الجميلة التي تفتقد لها معظم السيدات الصغيرات من جيلك؟؟
قالت: أنا تعلمت ذلك من جدتي، كانت تقوم بكل شيء لجدي، تنهض في الصباح الباكر لتحضر له الفطور، وبعد ذهابه للعمل تحضّر له الغداء، الذي كان يتناوله في البيت أيضاً. وفي المساء، عندما يجلس على كرسيه وراء طاولة الأكل تقدم له العشاء الساخن باللحم الطري الذي وفرته له. بعد ذلك يجلس على كنبته المخصصة يشاهد نشرات الأخبار التي لم تكن جدتي تهتم بها أبداً، ولم تسأله يوماً أن يبدّل المحطة لبرنامج آخر، وفوق ذلك كانت تعلّق له الثياب التي سوف يلبسها صباحاً وطبعاً مع القميص النظيف المكوي بيديها.
تابعت الصبية: كزائرة مستديمة لبيت جدي، كنت ألاحظ أنه لا يهتم لكل ما تقوم به من أجله. وأتساءل لماذا لا يقدّر الجهد الذي تبذله لعمل كل ما يرضيه ويريحه؟؟ وكنت أقول لنفسي: مستحيل أن أفعل ما تفعله جدتي!! هي تقوم بكل الأعمال بدون حمدٍ ولا شكر منه أو حتى إلتفاتة تقدير.
لكن عندما مرضت جدتي بمرض الخرف والنسيان ولم تعد تفرِّق بين الملح والسكر. ونسيَت أبسط مبادئ الطبخ والأعمال المنزلية، لم يتذمر جدي منها.. بل بالعكس، صار يطبخ أحياناً، وأحياناً يخرج وإياها للأكل وأحياناً يجلب الأكل جاهزاً. لكنها كانت تكره ذلك الأكل لأنه ببساطة لا طعم له ولا نكهة، كما كانت تقول.
.. أخذ جدي يقوم بالأعمال المنزلية كلّها، يكنس ويغسل الصحون وينظف الحمامات، ويغسل لها الثياب ويكويها أيضاً. وكان يوقظها بكل لطف في الصباح ويقدّم لها القهوة وهي مرتاحة على كنبتها المفضلة تشاهد البرامج التي تحّبها. ولم يعد جدي يهتم بمتابعة نشرات الأخبار… وفوق ذلك، بات من الصعب على جدتي التركيز في المحادثة، فهي لم تعد تتذكر أشياء وأحداثاً كثيرة، وتعيد وتكرر نفس السؤال ونفس القصة مرات عديدة.. مما أدى إلى إبتعاد حتى أقرب المقربين في العائلة عنها، ولم يبق لها إلاّ جدي يعتني بها ويستمع لها، رغم اعتلال صحته وكبر سنه.. سألتَه في إحدى المرات: كيف تستطيع يا جدي إحتمال كل ذلك والقيام به؟؟
لن أنسى عندما نظر إليّ قائلاً: كيف طاوعك قلبكِ أن تسأليني هذا السؤال؟؟ هل نسيت ما قدمته لي جدتك طوال حياتي معها؟؟ هذا أقل شيء يمكن أن أقدمه لها نظير محبتها لي وتفانيها كل تلك السنوات. عندها إقتنعت إن جدي أخيراً كان يرى ويقدر دون أن يفصح عن ذلك بكلمة شكر لجدتي.
والآن، أنا عندما أرى زوجي، لا يتفوّه لي بكلمة شكر وتقدير كلما أنهض باكراً، وأحضرّ طعام الفطور له وللأولاد، ثم آخذ الأولاد إلى المدرسة، وأذهب إلى العمل أحياناً لساعات طويلة، وفي طريقي أذهب إلى السوق فأشتري ما أحتاجه ثم أمرّ على الحضانة فأحمل الصغيرة وأعود إلى البيت، لتحضير العشاء وجلي الصحون وتنظيف المنزل… في أمسيات عديدة أشعر بالإحباط لقلة إكتراث زوجي وعدم إنتباهه لي عندما أقوم بغسل البرادي والشبابيك، وترتيب الكاراج والعناية بالحديقة إلى جانب العناية به وبالأولاد، خاصةً في مثل هذه الأيام الباردة.. حيث لا أتذمر ولا أشكو من الصقيع والبرد، بل أقوم بما يجب أن أقوم به وفي يقيني أنه يوماً ما عندما سأحتاجه سوف أجده بقربي مثل جدي.
Leave a Reply