هل يستنسخ الحريري الإبن مرحلة والده في المشروع الاقتصادي؟
بيروت –
مع تشكيل الحكومة، وعبور البيان الوزاري الى جلسة الثقة في مجلس النواب، والممثلة كتله جميعها في الحكومة، التي حملت عنوان حكومة الوحدة والوفاق الوطني، فإن استقراراً سياسياً سينتج عنها مختلفاً عن مرحلة ما قبل اتفاق الدوحة وما بعده، إذ أن الاصطفافات السياسية التي كانت موزعة بين “8” و”14” آذار، بدأت بالتزعزع بسبب التبدل الذي طرأ على مواقف قوى في الموالاة، وعلى رأسها النائب وليد جنبلاط من مواضيع وطنية أساسية، كالمقاومة وسلاحها الذي أكّد البيان الوزاري على ما سبق وأوردته الحكومتان السابقتان برئاسة فؤاد السنيورة، على حق لبنان شعباً وجيشاً ومقاومة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي واعتداءاته، وهذه العبارة التي حاول كل من حزب “القوات اللبنانية” وحزب “الكتائب” الاعتراض، والتحفظ عليها، لكن رئيس الحكومة سعد الحريري لم يقبل إلاّ أن تكون كل الحكومة مجمعة على هذا الموضوع المتروك معالجته لطاولة الحوار، من ضمن الاستراتيجية الدفاعية، التي بوشر مناقشتها منذ أكثر من ثلاث سنوات.
فالتبدل الذي حصل في موقف جنبلاط أربك حلفاءه المحليين والخارجيين مع تأكيده على أنه عاد الى ثوابته الوطنية والقومية وتراث الحزب التقدمي الاشتراكي، لجهة تأييد نضال الشعب الفلسطيني ومقاومته لاسترداد أرضه المغتصبة، الى تثبيت عروبة لبنان والتزامه القضايا العربية، وتطبيع علاقاته مع محيطه العربي، لاسيما سوريا في علاقات مميّزة، للروابط الجغرافية والتاريخية والحضارية، بين الدولتين.
فتموضع رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي السياسي الى جانب قوى المعارضة وانفتاحه عليها، ومصالحة أحزابها وتياراتها، وكانت آخرها مصالحته مع رئيس “تيار المردة” سليمان فرنجية، بعد أن اجتاز الحوار مع قوى حزبية وسياسية داخل الطائفة الدرزية، كالحزب الديمقراطي اللبناني برئاسة طلال ارسلان، و”تيار التوحيد” برئاسة وئام وهاب، و”الحزب السوري القومي الاجتماعي” برئاسة أسعد حردان، فإن الموقع القديم الجديد، لرئيس الحزب التقدمي الاشتراكي خلط أوراق التحالفات ، وهذا ما كان متوقعاً أن يحصل بعد الانتخابات النيابية، بعد أن أعطى جنبلاط إشارات الى أنه سيترك موقعه في “14 آذار”، وهذا ما أعلنه في الجمعية العمومية لحزبه في آب الماضي، وقد فجّر بموقعه هذا قنبلة سياسية وصل صداها الى واشنطن التي استعجل مساعد وزيرة الخارجية لشؤون الشرق الأوسط جيفري فيلتمان الحضور الى لبنان، وهو السفير السابق فيه، للوقوف على موقف جنبلاط حليف واشنطن في “ثورة الأرز”، وحثه على العودة الى موقعه، وإعادة ترميم قوى الأكثرية، لكن الرد الجنبلاطي كان أن رهانه على المشروع الأميركي في المنطقة انتهى، وهو يراه يسقط في أكثر من دولة، كما أن السعودية أوفدت سفيرها السابق في لبنان ووزير إعلامها وثقافتها عبد العزيز خوجه، لاستطلاع التبدل الذي حصل مع جنبلاط الذي قد يطيح بالأكثرية النيابية التي جهدت أن تؤمنها في الانتخابات، لكن جاءها الاطمئنان من رئيس “اللقاء الديمقراطي”، أنه سيبقى الى جانب سعد الحريري ويؤمن وصوله الى رئاسة الحكومة والوقوف معه في مجلس الوزراء.
أدى تبدّل موقف جنبلاط، الى التأثير على الحريري لجهة انفتاحه أيضاً على المعارضة، وأدّت عملية تشكيل الحكومة الى فتح حوارات مع قيادات فيها، لاسيما رئيس “التيار الوطني الحر” العماد ميشال عون والوزير سليمان فرنجية، وأيضاً مع ارسلان، وأوفد ممثلاً عنه لتمثيله في ذكرى تأسيس الحزب القومي، وقد لاقى بإيجابية كلام وهاب عنه في أكثر من موقف، لجهة العلاقة مع سوريا، وتأييده للمقاومة، وهذا ما فتح العقول والقلوب، بين أطراف لبنانية أقفلت الأبواب على بعضها، وأقامت الحواجز فيما بينها، ولجأت الى الشارع في التعبير عن مواقفها، وكادت أن تؤدي هذه الأجواء السياسية المتشنجة الى إغراق البلاد في حرب أهلية، وقد نجت منها في أكثر من حادثة وقعت بالاغتيال أو التفجير أو الاشتباكات بين بعض الأحياء والمدن والقرى.
لقد تغيّرت الأجواء السياسية، مع اللقاء والمصالحة السورية-السعودية، التي تُوّجت بعقد قمة بين الرئيس بشار الأسد والملك عبد الله، حيث فتحت الطريق نحو الاستقرار الداخلي، تمّ التعبير عنه في صيغة حكومة الوحدة الوطنية، عبر تسوية داخلية بتغطية عربية وإقليمية ودولية، بعد أن رضخت الدول التي اعترضت على مشاركة المعارضة لاسيما “حزب الله” في الحكومة مثل مصر والولايات المتحدة الأميركية، لشبه الإجماع اللبناني على تشكيل حكومة وفاقية، برعاية خارجية.
فلبنان مقبل على استقرار داخلي، سيتم التعبير عنه في عمل الحكومة التي تمثل كل الأطراف، وسيغيب التصنيف داخلها بين موالاة ومعارضة، وهو ما دفع الرئيس نبيه بري الى نعي المعارضة ووصفها بالسابقة، في إشارة منه الى أن الحكومة هي حكومة وحدة وطنية، وهذا ما أكّد عليه الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله، الذي دعا الى إزالة المتاريس داخل الحكومة، وتركها تعمل على القضايا الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية والخدماتية للمواطنين، وهو يتفق أيضاً مع الرئيس الحريري الذي أخرج المقاومة من التداول، كما لم تعد العلاقة مع سوريا موضع تساؤل، مما أبقى العناوين الداخلية هي المتقدمة في عمل الحكومة لجهة إجراء إصلاحات سياسية وإدارية واقتصادية واجتماعية، وقد أعلن رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان أنه سيتوّج عهده بتحقيق الإصلاحات التي وردت في اتفاق الطائف، مع إجراء تقويم لتطبيقه والممارسة التي حصلت خلال مرحلة العشرين عاماً على صدوره.
لذلك يؤكّد المسؤولون ومعظم القيادات السياسية والحزبية، أن المرحلة المقبلة هي لبناء الدولة ومؤسساتها، وكان شعار قوى “14 آذار” في الانتخابات هو “العبور الى الدولة”، كما أن المعارضة أعلنت عن بناء الدولة القوية القادرة والفاعلة، وهذا الشعار المشترك في قيام الدولة، هو ما سيتم التنافس حوله بين القوى السياسية، في إدائها لجهة بناء المؤسسات ومحاربة الفساد، وهي موضوعة تحت المجهر، لاسيما من يدخلون جنة الحكم حديثاً، وتحديداً “التيار الوطني الحر” الذي يرفع شعار “الإصلاح والتغيير”، الى “حزب الله” الذي يدعو الى تنزيه الدولة، كما أن “القوات اللبنانية” أمام امتحان دخولها السلطة أيضاً، وكذلك وزراء رئيس الجمهورية الذي يدعو الى “ثورة إصلاحية”، ومثله رئيس الحكومة الشاب سعد الحريري، الذي عليه تقويم مرحلة حكم “الحريرية السياسية” لمدة 15 سنة، لاسيما في شقها المالي والاقتصادي، وما إذا كان سيبقى على نفس النهج الذي اتبعه والده أثناء توليه رئاسة الحكومة أم سيغيّره، لأنه سيواجه بقوى داخل الحكومة لن تسايره في مسألة الخصخصة، ولا في موضوع بيع الأملاك العامة، إضافة الى مسألة الرسوم والضرائب، الى دور لبنان ووظيفته الاقتصادية، ودور القطاعات الانتاجية، وهل يبقى بلداً للخدمات فقط؟
إن الحكومة الجديدة خلطت أوراق التحالفات وهي أمام مرحلة تشبه تلك التي كانت سائدة أيام “الحقبة السورية” التي رعت تطبيق اتفاق الطائف، إذ أن انفراط عقد الموالاة والمعارضة كإطارين تنظيميين، من خلال التقارب السياسي بين القوى الأساسية، يخرج لبنان من التناحر الحاد الذي انقسم فيه اللبنانيون على مشروعين، الأول أيّدته المعارضة، هو مشروع المقاومة والتحالف مع دول الممانعة والصمود والوقوف بمواجهة “الشرق الأوسط الجديد” الأميركي، والمشروع الثاني راهنت عليه قوى 14 آذار على نزع سلاح المقاومة الذي بدأ بالحوار، وانتهى الى عدوان إسرائيلي في صيف 2006، وانهزم فيه الجيش الإسرائيلي، وسقط معه مشروع الرئيس الأميركي السابق جورج بوش حول “الشرق الأوسط الكبير”، وقد دُفن مع 7 أيار 2008، عندما تصدت المقاومة لإزالة شبكة اتصالاتها، حيث أدّى تحرك المعارضة عسكرياً على الأرض، الى تغيير المعادلة الداخلية، عبر اتفاق الدوحة، حيث لمس جنبلاط أن رهانه على المشروع الأميركي قد فشل، وقد جاءته الإشارات في نهاية العام 2006، عندما أبلغته وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك كونداليزا رايس، أن لا نيّة لدى إدارتها لإسقاط النظام في سوريا، بل لتغيير سلوكه.
فالمشروع الذي يتجه إليه الوضع في لبنان، هو بناء الدولة، وعدم الرضوخ الى الإملاءات الخارجية، لنزع سلاح المقاومة، كما جاء في قرار مجلس الأمن الدولي 1559، والذي اعتبر في حينه قرار فتنة، وهو ما حصل، إذ منذ صدوره، دخل لبنان في صراع داخلي، أيقظ الحالة المذهبية السنية-الشيعية، وهي امتداد لما افتعلته أميركا في العراق بعد احتلال قواتها له، حيث اشعلت حرباً مذهبية وعرقية، وهو ما يندرج في المشروع الأميركي-الإسرائيلي لتفتيت المنطقة، والذي مازال لبنان في دائرة استهدافاته، عبر طرح مشروع توطين الفلسطينيين الذي سيقابله تلقائياً مشروع التقسيم الذي عاد الترويج له مع طروحات النائب سامي الجميل نجل رئيس حزب الكتائب من خلال شعار “لبناننا” والذي يعني سياسياً “الفدرالية” والكانتونات، وطرح موضوع كتابة تاريخ لبنان.
وهذه العودة الى طرح الأفكار التقسيمية، هو ما أقلق جنبلاط الذي عاد الى رفض الإنعزالية من أي طرف طرحت، لأنها تعني الحرب الأهلية، وهو يشدّد على الانفتاح في المدى العربي، والخروج من التقوقع، وهو ما يحاول أن يفعله من خلال تموضعه السياسي داخل العروبة والانفتاح على سوريا من خلال الجغرافيا السياسية، وما تمثله من حجم عربي وإقليمي ودولي، التي البديل عنها هو التقسيم والحروب المذهبية والطائفية.
فشعار بناء الدولة، هو الرد على عودة مشاريع الدويلات، فهل تنجح الحكومة الجديدة، في قيام الدولة العابرة للطوائف والمذاهب، وهو ما نصّ عليه اتفاق الطائف، من خلال إلغاء الطائفية، والإنتقال بالدولة من توزيع الحصص الطائفية والمذهبية على مؤسساتها، الى دولة المؤسسات المتحررة من القيد الطائفي، الذي يبدأ من قانون انتخاب يكوّن سلطة تبدأ في مجلس النواب خارج القيد الطائفي، ليتمدّد الى كل المؤسسات،وهذا ما بشر به الرئيس نبيه بري عن ورشة تشريعية ستبدأ باللامركزية الادارية، وتشكيل الهيئة الوطنية لالغاء الطائفية، وانشاء مجلس الشيوخ، بعد انتخاب مجلس نيابي غير طائفي.
Leave a Reply