القرية في لبنان، من زمان، كانت الحياة فيها لذيذة وسهلة رغم التعب والشقاء الذي يعانيه الفلاحون البسطاء. لكن يبقى للأشياء والمناسبات نكهتها وحلاوتها والاستمتاع بها، ولكل إنسان في القرية عمله وحرفته، فالمزارع والراعي والاسكافي والحلاق والبائع في دكانه الصغير، أو التاجر الذي يشتري ويبيع المحاصيل ورجل الدين والداية (القابلة القانونية)، كل منهم يعمل في فلكه المعلوم.
لكن لا تكتمل صورة الضيعة إلا بوجود حمار الضيعة! حامل لقب حمار الضيعة لا يغضب لنعته بهذا اللقب الغريب، بل على العكس من ذلك، يعيش منشرحا ومرتاحا ومعتزا بهذا اللقب، لأنه يعرف أن للحمار الفهيم ميزة لا ينافسه فيها كائن آخر من فصائل الحيوان جميعا ولا حتى من فصيلة بني آدم.
والميزة العظيمة والموهبة الخارقة التي يتميز بها الحمار الفهيم هي في قدرته على الاهتداء على الطرق والاتجاهات الآمنة والسليمة التي عليه أن يسير فيها بين المعابر المتشابكة والمسالك المتشابهة في شعاب الجبال والأودية والسفوح ومجاهل الأرض حيث يضل البني آدم فلا يعرف من أين يدخل أو يخرج، من والى الاتجاه السليم.
من المعروف، أن الانسان لو اقتيد لمرات عديدة في الليل أو في النهار عبر منطقة واسعة تملؤها الأزقة، أو الزنكة حسب تعبير القذافي، والزواريب والمعابر المتشابهة وتتوافر فيها الطرق المتعددة للاتجاهات المختلفة، وبعد أن يصل الى المكان الذي يقصده وقيل له: عليك الآن أن تعود وحدك من حيث أتيت، فمن المؤكد أنه سوف يرفض لاستحالة الأمر حيث عليه أن يستجلي طريقه أكثر من مرة وربما يضيع أو يتوه أكثر من مرة.
أما الحمار فهو يملك في هذه الحال حاسة عجيبة حقا تمكنه من معرفة طريق العودة، الدرب ذاتها التي سلكها في درب الذهاب رغم ما فيها من اتجاهات متشابهة ومسالك متعددة، ومن دون أن يضيع عن مواطئ أقدامه ولو خطوة واحدة سبق له أن خطاها في هذا الطريق، ولو منذ عدة سنوات.
من هنا كان لقب حمار الضيعة لقب لطالما اعتز به حامله وتنافس عليه أذكياء الناس في القرى، لأن الذي يحمله هو انسان له خبرة خاصة في شؤون الطرق ويتمتع بميزة فائقة بالاهتداء الى الدروب الآمنة والمسالك الصحيحة، حتى وان لم يبلغ في خبرته وميزته مبلغ الحمار!
Leave a Reply