شهر شباط «وإن شبط ولبط ريحة الصيف فيه». أغرت شمسه في اليومين الأخيرين منه، الديربورنيين للخروج والتمتع بنسماته الدافئة بعد ثلوجه وأمطاره التي تسببت بفيضانات في بعض البيوت. أحببت أن أمشي على شارع وورن، وللصدفة الجميلة شاهدت حماراً يتمشى بهدوء على رصيفه عكس سائر الآدميين، وإخوانه في مملكة الحيوان السعيدة الذين يتهزهزون ويركضون.
ما أبدعه وهو يمشي مثل فيلسوف صامت يتأمل الناس مستغرباً متعجباً! كيف جعل الله البشر مخلوقات ممسوخة تمشي على قائمتين اثنتين، فيما هو يمشي على أربع قوائم. وكيف أن آذانهم قصيرة صغيرة «لازقة» بأفواههم فيما ترتفع آذانه هو إلى فوق بشهامة واستقامة، وكيف أن جلودهم رقيقة وهزيلة يغطونها بالبراذع في الحر وفي البرد، بينما هو خالٍ من هذا الهم مثل خلوِّه من همّ الاستماع إلى الأخبار ومتابعة نشطاء الجالية ليعرف من اجتمع بمن، ومن استقبل من ومن تعشَّى مع من عشاء عمل، ومن ترشح لأعلى المراتب والمناصب. وفوق ذلك فهو، أي –الصامت الفهيم– الحمار، رفع الله عنه الرغبة في حضور تلك اللقاءات الثقافية والندوات الأدبية والاستماع إلى محاضرات هزيلة ومداخلات سقيمة وأشعار باردة سخيفة، إذ أنه مضطر لسماع «الوعوعة والبعبعة» من الزعماء المحليين، أو عبر البحار، أو الأغاني الركيكة والأدعية السقيمة عبر مكبرات صوت بعض السائقين.
بصراحة شعرت أن هذا الحمار يخاطب من تقشع عيناه من بني آدم مخاطبة الفهيم للغشيم وهو يشاهدهم يمشون بعجلة، أو يقودون سياراتهم بتهوّر، فماذا قال؟ قال: أيها الآدمي الغبي، أنا حيوان بعقلٍ محدود وأنت آدمي عاقل كامل كما تصف نفسك. أنا حيوان بلا جهدٍ ولا تعبٍ، بينما أنت استخدمت عقلك لتشقى ولكي تعود حيواناً مسخاً. اكتفيت أنا بالرعي في الطبيعة الجميلة، بينما أنت مسخت نفسك وشوهت كل ما وطئته قدماك ورأته عيناك. هذا الشارع الذي بذلت الجهد الطويل لهندسته وإنشائه، وهذه الأبنية العالية الخالية من الذوق، وهذه السيارات والطائرات جعلتها لتمنع عن نفسك ومن حولك نقاء الهواء وصفاء الماء ومشهد السماء الزرقاء وأشعة الشمس وضوء القمر ونجوم الأبد وجمال «أم الحياة الطبيعة» اللامتناهي.
ثم رأيته يرفع رأسه إلى فوق وكأنه يشكر الخالق الذي خلقه حماراً ولم يخلقه إنساناً.
وتابعت النظر إلى الحمار الفهمان أتأمله وأعجب بما لديه من حكمة من دون أن يحصل على شهادة «عالية» في البزنس وعلوم الاقتصاد والاجتماع ولم يدخل أرفع جامعة لمتابعة دراساته العليا في العلوم النظرية والسيكولوجية.
وطاب لي أن أراه وهو يميل بنظره نحو اليمين واليسار في أدبٍ وحياء. ولكن إذا كان الحمار من أهل الحكمة والحياء، فإن ذلك لا يعني بعض بني البشر ولا يلزمهم في شيء، فالكثير يمشون ويتكلمون في هواتفهم أو يبحلقون فيها دون انتباه ودون التفات إذا دفشوا أحدهم أو تجاوزوا غيرهم، حتى لو كانوا يعرفونهم عزَّ المعرفة، وهذا دليل وبرهان على أن النملة قد تكون أبعد نظراً وأرجح عقلاً وأسلم ذوقاً من هؤلاء السائرين المستعجلين غير الملتفتين إلى شمس شباط المشرقة ودفئها اللطيف الذي أغرى بعض الفتيات والفتيان للتخلي عن أكثر ثيابهم، مما جعل الحمار الفهيم يوطي رأسه إنكاراً لبشاعة.. ما لا يلبسونه.
المعذرة من القارئ الكريم. هذا المقال من الخيال نظراً لتغيّر الحال وبداعة الأحوال في شوارع ديربورن.
Leave a Reply