وليد مرمر
ربما كان لحفل «ليلة أمل» المجاني الذي أعده أسامة الرحباني وأنتجته شركات محلية وأجنبية ونقلته محطة «أم تي في» حصرياً في منتصف شهر أيار الماضي في «فورم دو بيروت» وحضره حوالي خمسة آلاف شخص، ربما كان ليمر مرور الكرام كعمل فني جمع موسيقيين محترفين وراقصين ومغنية ذات صوت جميل (هبة طوجي). بل وربما كانت مشاركة «النجمة» إليسا في الحفل، مؤديةً إحدى أغانيها التي لحّنها أسامة الرحباني، ليمر أيضاً لولا تنطّحها للمشاركة مع هبة طوجي لأداء أغنية «حنّا السكران» للراحل إلياس الرحباني.
قد يغفر المستمع لهما ولأسامة بترهما المقطع الثاني من الأغنية والاكتفاء بأداء المقطعين الأول والثالث، مع ما لذلك من تغيير في بنية الأغنية ومعانيها، حيث يصبح الاجتزاء تحريفاً. وإذا كان يمكن التغاضي عن ذلك بذريعة ضيق الوقت أو لأسباب أخرى، إلا أن تعمد إليسا تشويه التراث الرحباني وإدخال الإسفاف إليه عبر تغيير كلمات الأغنية (قصداً أو سهوا) فهذا مما لا يغفر ولا يجب أن يمر دون «قرصة أذن».
الأغنية لمن لا يعرفها تقول: «كان الزمان وكان في دكانة بالفيّ، وبنيات وصبيان نجي نلعب عالميّ، يبقى حنا السكران، قاعد خلف الدكان يغني وتحزن بنت الجيران… نحنا والعصافير كنا بالحي ندور، صوب الدكان نطير حاملين غمار زهور، ويبقى حنا السكران، ملهي وعلى الحيطان، عم بيصور بنت الجيران… حلوة بنت الجيران راحت بليلة عيد، وانهدّت الدكان واتعمّر بيت جديد، وبعدو حنا السكران على حيطان النسيان، عم بيصور بنت الجيران».
ولكن إليسا لم يرق لها أن يكون حنا السكران «قاعد خلف الدكان… يغني وتحزن بنت الجيران«… فاتهمته بهتاناً بخيانة الأمانة، مبدلة في الكلمات التي صدحت بها السيدة فيروز في سبعينيات القرن الماضي. واستبدلت إليسا جملة «يغني وتحزن بنت الجيران» بـ«عميزبط بنت الجيران». ولو أن إليسا اعتذرت للجمهور عن هذه الخطيئة بحق الإرث الرحباني لربما شفع لها إقرارها بالخطأ ولوجب أن نتحرى لها العذر. ولكن أن تقوم بالرد التصعيدي على تغريدات ريما الرحباني التي انتقدت –بحق– ما حصل في الحفل، ليس إلا لأنها كمن أخذته العزة بالإثم فأصبح كالمتخبًّط بين الزلل والخطل.
إن استهتار إليسا بكل تفاصيل الفن الرحباني وتجرءها على أدائه من غير تحضير كافٍ يعصمها من اقتراف هذا التغيير الشائن بالكلمات، لمصيبة جلل. وهو كمن يعمد إلى إرث بشري ثقافي تملكه الأجيال فيطمسه أو يشوهه وبالتالي يصبح ملوماً إن فَعَلَ ذلك عن سبق إصرار أو عن عدم دراية. وهو أمر لا يصدر إلا ممن «تَلَبَّدت» أحاسيسه و«نشزت» فطرته! وأغلب الظن أن إليسا تظن في قرارة نفسها، أو في وعيها أو لا وعيها سواء، أن الأغنية إنما تدعو للانحلال الأخلاقي الذي دأبت هي وأقرانها من «فنّاني» الزمن الرديء على تصديره، وإن تَسَمَّى خطأً، بالفن الرومانسي.
لقد شكل الرحابنة ظاهرة موسيقية فريدة تضافرت فيها كل العناصر (الصوت واللحن والكلمة) بشكل متكامل يكاد لا يتكرر إلى أبد الدهر. هم أشبه بالظواهر الفلكية التي تحدث مرة كل مليون سنة. وليس ثمة مشروع موسيقي عربي واحد منذ وفاة عاصي في ثمانينيات القرن الماضي يمكنه أن يكون وصيفاً عاشراً للفن الرحباني فضلاً عن وراثته. لقد كان الرحابنة أكبر من زمنهم، وأخصّ بالذكر عاصي الذي قد يتطلب استلهام جماليات فنه وتقييم إرثه الشعري والمسرحي والغنائي، عشرات أطروحات الدكتوراه! فلقد ثار الفن الرحباني على المدارس المصرية السائدة وشكل قوالب تأليفية شعرية وموسيقية من غير مثيل يحتذى في الشرق أو الغرب وهذا نبوغ ما بعده نبوغ.
لقد ادعى فرنسيس فوكوياما في «نهاية التاريخ» أن الديمقراطية الليبرالية هي أعلى نموذج ينتجه الفكر السياسي ولذا فإن التطور التاريخي السياسي قد اكتمل بها. وعلى هذا المثال يمكن للبعض أن يدعي، وأنا منهم، أن الرحابنة قد سطروا بأعمالهم الخالدة «نهاية الفن» ولن يكون ثمة أي تطور فني بإمكانه تجاوز ما قدموه للمكتبة الموسيقية العربية. فليس بعد الكمال تطور! ولقد مجد الرحابنة في أعمالهم ،«الحب» بمفهومه الأفلاطوني، بل بإمكاني الادعاء أنهم –وفي أشعار أغانيهم التي ناهزت الألف أغنية– قد أعادوا تعريف الحب! فليس الحب ما قبل الرحابنة كالحب بعدهم!
فأنى إذن للثرى أن يلامس الثريا وأنى لإليسا أن تفقه معنى الفن الرحباني ورسالته!
إن حنا السكران لا «يزبّط» بنت الجيران! إن حنا السكران وبنت الجيران، يسكنان ديرة واحدة، همومهما واحدة وأفراحهما وأتراحهما واحدة. وحنا لو استطاع أن يبذل الغالي والنفيس لـ«يحافظ» على بنت الجيران لما أحجم طرفة عين، كما هي العادات والتقاليد في القرى والبلدات المستلقية على سفوح تلك الأودية والجبال منذ العصور السحيقة. بل لو أزاح النسيم الثوب عن بعض أقدام حبيبته أو ساقيها لسارع حنا السكران إلى غض البصر احتشاماً واحتراماً. هذا هو الفن الرحباني الذي لا تفقهه إليسا ولا غيرها من «فنّاني» الزمن الرديء. والعجيب أن حنا السكران لم يعش في الماضي الغابر. بل كان يعيش منذ عقود قليلة فقط، ولكن حجم التغير الذي أصاب هذه البلاد نتيجة العولمة واللبرلة في العقود الأخيرة جعله يبدو وكأنه شخصية أسطورية. ولكن ما يعزي النفس أنه من المسلّم به أن هذا المشرق المبارك لن ينحني أو يخر مهما كادته المكائد وعصفت به المصائب بل سيظل أبياً يكافح قطار العولمة والشيطنة الذي لا يبقي ولا يذر والذي تبشر به وتعمل له إليسا وغيرها من حيث يدرون أو لا يدرون.
لم يعاصر حنا السكران، وسائل التواصل الإجتماعي والهاتف النقال. كان حبه لبنت الجيران حباً عذرياً لن تقدر إليسا ولا من شابهها على تدنيسه. وحنا السكران هو «الدكنجي» البسيط في قرانا والذي يأتمنه كل سكان الحي على أسرارهم وحكاياهم ومفاتيح بيوتهم لذا فليس «التزبيط» من شيمه. هو «الدكنجي» الذي ورغم ضيق الأحوال لا يرد طالب دين ولا ينهر محتاجاً. وأما «دفتر الدين» لديه فقد امتلأ حتى أمسى يخربش الديون الجديدة داخل الغلاف وخارجه على جنبات الصفحات فلا يكاد يفقه فك رموزها إلا هو. ولعل حنا لم يكن واسع الحال فلم يستطع وصلاً ببنت الجيران بعدما شَغَفَته حباً. أو لعلها بدورها هامت بفتى غيره لكن رغم ذلك فإن حب حنا العذري لها لم يذبل أو يخبو. ربما كانت تشفق عليه وتحنو إليه لعلمها بما يكنه لها من محبة صادقة. لذا فهو عندما كان يترنم لها بالألحان كانت تحزن لشكواه: «يغني وتحزن بنت الجيران». وكأن به قد ألجأه عشقه الحزين إلى بنت الكرمة ليسلو عن بنت الجيران بعدما أعيته الحيل لنسيانها.
في المقطع الأخير من الأغنية، يتكثف المشهد الدرامي عندما تتزوج بنت الجيران (راحت بليلة عيد). ثم يختفي حنا السكران، و«انهدت الدكان»، ولعله قضى حزناً على فراق محبوبته.. ولكن الحياة تستمر (تعمر بيت جديد).. ورغم أن إليسا ومن شابهها لم ولن يستطيعوا إدراك كنه هذا الحب إلا أنه لن يندثر لأن حنّا باقٍ «على حيطان النسيان عم يصور بنت الجيران».
إن المشهد الدرامي الذي لخصته الأغنية غارق في النوستالجيا، متوشح بالرومانسية، متعطر بالشاعرية لكنه ليس فريداً في الإرث الرحباني. بل لعل «رندلى» سعيد عقل في أغنية «من روابينا القمر» والتي كانت «تجايل القمر، وتفاجئه حافياً فوق الزهر»، هي حبيبة حنا، ولعل صاحباتها «دمى الحسن الأُخر» واللائي «من غزلهن يُكسى القمر»، لعلهن قريناتها اللائي كن يتهامسن على حافة النهر حول شغف حنا ببنت الجيران ثم يطلقن «ضحكة طافرة» يتبعها «نشيد في الأثر».
بل أظن حنا هو نفسه الذي كان «مشلوحاً في دكانه» إلى أن «ضجرت منه الحيطان» في أغنية «أديش كان ناس» فيما كان «يؤلف عناوين مش معروفة لمين» بينا يراقب العشاق يتلاقون تحت المطر «حاملين شمسية» فيما هو في أيام الصحو لم ينتظره أحد. فَيمنّي نفسه بأن السماء ستمطر عليه يوماً «شمسيات وأحباب ياخدوني بشي نهار».
لقد جسد الرحابنة في أعمالهم، الجمال اللبناني والبساطة القروية والحب العذري وغيرها من المفاهيم التي تربت عليها الأجيال منذ خمسينيات القرن الماضي. وأغنية حنا السكران هي من هذا «الريبيراتوار» الرحباني الذي أسس لمدرسة فنية في المشرق لم ولن تجاريها مدرسة أخرى. فإضافة إلى اللحن الذي حفر في الذاكرة إلى الأبد، فإن كلمات الأغنية المرهفة هي ذروة في الإبداع الشعري والتصوير الدرامي الذي يلامس الإعجاز الفني بسبب قدرتها على إيصال معاني فريدة وسامية في مقاطع صغيرة.
وبرأيي أنه ينبغي على الدولة اللبنانية –أو ما تبقى منها– ومن أجل صيانة تراثنا الثقافي وحفظه من التشويه، ينبغي أن تصدر مرسوماً يمنع بموجبه أي فنان من أداء الفن الرحباني سيما في سبيل الكسب والشهرة.
إن المؤامرة مستمرة وفي عز غليانها لحرمان هذا الشرق من كل ما يملك ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. فبعد الجهد الدؤوب لطمس حضاراته الثلاث في اليمن والعراق وسوريا لم يتبق لدينا، كما يدعي البعض –تهكماً أو حقاً– لم يبق لدينا إلا قرص الفلافل وصحن الحمص لنتباهى بهما أمام الحضارات الأخرى. نعم، إن هناك هجمة شرسة على ما تبقى لدينا من تراث فني راقٍ عبر أدوات «إنتاجية» و«فنية» غير بريئة. وليست الشركات الإنتاجية معروفة الولاءات والانتماءات التي مولت الحفل آنف الذكر إلا مؤشراً قوياً لوجود هذه المؤامرة.
إن كلمة واحدة كـ«يزبط بنت الجيران» يتم إدخالها سهواً او عمداً في أغنية ما يمكنها أن ترسل رسائل مشفرة يتم حفرها في اللاوعي لدى الأجيال الجديدة لتشكل معاني هي أبعد ما يكون عن الرسالة الحقيقية لهذا الفن. وسواء اقترفت إليسا خطيئتها سهواً أم عمداً فإن الأكيد أنه يجب صيانة إرثنا الفني الرحباني من التطفل والغوغائية لأن التشويه لن يقتصر عليه، بل سيطال كل ما يحمله هذا الفن من المعاني الراقية وما يجسده لدى أممنا من الأصالة والبساطة والأخلاق التي «ما بقيت بقوا (الأمم)، فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا» كما حذّر أمير الشعراء أحمد شوقي!
Leave a Reply