وليد مرمر – لندن
خلال حفل زفاف في منطقة الجية، يدخل رجل يحمل مسدساً ويقوم –بدم بارد وعلى مرأى كل الحاضرين– بإطلاق النار على أحد المتواجدين فيرديه قتيلاً نتيجة دعوى ثأر قديم.
في اليوم التالي ولدى تشييع الرجل الذي تم اغتياله في حفل الزفاف يتم تحضير كمين محكم ومخطط له سلفاً للجنازة التي يخفي المشيعون فيها أسلحة فردية ومتوسطة في السيارات دفاعية الربع وسيارات الإسعاف المرافقة فيحدث هناك اشتباك بين المشيعين (الشيعة)وبين المجموعات المهاجمة من سوريين وأعراب (سنة) ويسقط قتلى من الفريقين. وبذلك يتم استدراج «حزب الله» و«حركة أمل» وجمهورهما إلى مواجهة عسكرية فتتسع حدة الاشتباكات في مناطق لبنانية عدة لتتحول إلى حرب أهلية–طائفية. ولكن في «أسوأ الأحوال»، وفي حال تدخّلَ العقلاء وتم وأد الفتنة واستيعاب غضب الشارع، سيتم حينها توظيف هذه الأحداث في ذكرى الرابع من آب لتوجيه زخم المشاركين من جمعيات وأفراد للمطالبة بشيء واحد هو أساس العلل كلها في البلاد: سلاح المقاومة!
كان هذا هو السيناريو المُخطط له باحترافية في خلدة، الأسبوع الماضي. ولكن للمرة الألف تعض المقاومة على الجراح نتيجة لقرار قيادتها بعدم الانجرار إلى صراعات عبثية مع عصابات مرتهنة ومدفوعة من الخارج، وتقدم بالتالي مثالاً يُحتذى في كظم الغيظ وتقديم التضحيات والتعالي على الجراح فداءً للسلم الأهلي ومنعاً من حرف البوصلة عن الهدف الأسمى وهو القدس الشريف.
فرغم أن حق الدفاع عن النفس هو حق مشروع في كل الشرائع الدولية، فقد قررت المقاومة التخلي عن هذا الحق وإدارة الخدين تباعاً وخلال يومين متتابعين لصفعتين مأجورتين كانتا تهدفان إلى إشعال فتنة سنية–شيعية.
ولا شك أن ممثلي السفارات من جهة وكتبة التقارير من جهة أخرى، قد بدأوا بإلقاء اللوم على بعضهم البعض نتيجة فشل هذ المخطط الفتنوي.
هكذا، لم يتعلم الكتبة وخلفهم أسيادهم ومشغلوهم من دروس التحرير عام 2000 عندما لم تقدم المقاومة وحاضنتها الشعبية على ردود فعل عشوائية أو شعبوية بمواجهة الفخ الذي نصبه لها العدو الإسرائيلي عندما ترك عملاءه وأفراد «جيش لبنان الجنوبي» لقمة سائغة في أيدي الأهالي والمقاومين الغاضبين أملاً بأن تقع مجازر وإعدامات علنية فورية كما هو مصير العملاء في معظم حروب التحرير عبر التاريخ الحافل بالمجازر الدموية بعد جلاء المحتل.
ومن قبيل هذا، ما حدث بعد انسحاب إسرائيل عام 1983 من قرى الجبل اللبناني (قرى الشوف وعالية وبعبدا) حين زرعت بذور الفتنة المسيحية الدرزية بين الأهالي. بل هذا ما يحدث حالياً في أفغانستان حيث تقوم حركة طالبان باقتراف المجازر بحق الجيش الحكومي والمدنيين سواء في المدن أو القرى التي سيطرت عليها بعد الانسحاب الأميركي مؤخراً.
وبالعودة إلى الأرشيف نستحضر تصريحاً نُقل عقب تحرير جنوب لبنان عن مسؤول وحدة الارتباط والتنسيق في «حزب الله»، وفيق صفا، إذ قال: «إن قيادة المقاومة قرأت جيّداً خلفيّات الانسحاب الإسرائيلي من دون إعلام عملائه، لقد كان رهانه على الفتنة وعلى مواجهة بين العملاء من جهة والمقاومة والأهالي المحرِّرين لقراهم بأنفسهم من جهة أخرى، فالجيش لم يكن متواجداً ولا «اليونيفيل» لضبط الأمور. لكن «حزب الله» وحركة «أمل» أخذا على عاتقهما ضبط الأمور فيما يتعلّق بالعملاء. هكذا توجّهت إلى كنيسة رميش، وهناك كان الوزير علي حسن خليل (مسؤول منطقة الجنوب في حركة أمل حينها) واجتمعنا بأهالي العملاء، ونقلنا رسالة قيادة المقاومة: على العملاء تسليم أنفسهم وأسلحتهم، أمّا عائلاتهم فلا أحد سيتعاطى معها، وعليهم الأمان في منازلهم.. وعممنا هذه الرسالة في كل القرى المسيحية الجنوبية.. ثم سلّمت المقاومة كل مَن سلّم نفسه من العملاء إلى الجيش اللبناني، وجُمع سلاحهم وأعطي للسلطات الأمنية اللبنانية، دون أن تحصل ضربة كفّ واحدة..ولم يقترب أحد من عائلات العملاء.. كل ذلك كان بتوجيه مباشر من الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله الذي كان يتابع معي عبر الهاتف الخليوي لحظة بلحظة وخطوة بخطوة، وكان حريصاً على انتقاء العبارات المطمئنة لأهالي العملاء. أمّا العملاء فالقضاء هو يحدّد مصيرهم.. وبعد إطلاق سراح العملاء الذين أمضوا محكوميّاتهم، عادوا إلى قراهم.. ولم يقترب منهم أحد.. ومنذ ذاك اليوم، لم يُسمع أن أحداً آذى عميلاً كان قد آذاه يوماً، لأنّ من يسكن تلك الأرض المحرّرة، شعب كان على قدر النصر، شعب يليق به النصر».
ولكن مرور قطوع خلدة لا يعني أن العاملين ليلاً نهاراً على إشعال نار الفتنة اللبنانية وعلى شيطنة المقاومة قد وضعوا السلاح واستسلموا. فالعمل جار على قدم وساق وعلى شتى الصعد للوصول إلى هذا الهدف.
وفي هذا الإطار، تأتي المسرحية الهزلية التي أعدها وأخرجها مارسيل غانم على القناة الممولة من السعودية MTV في برنامج «صار الوقت»، الأربعاء الماضي، الذي خُصص لذكرى تفجير 4 آب. فقد تم إعداد «زهير صديق» جديد ليقوم كسلفه بدور «الشاهد الملك» في قضية نيترات الأمونيوم، ولكن هذه المرة اسمه عماد كشلي.
وفي مشهد تمثيلي فاشل، يترك مارسيل غانم منصته ليقترب من الشاهد في طريقة درامية ومن ثم يبدأ بإلقاء الأسئلة عليه فيما كان يبدو واضحاً أن الرجلين كانا قد تدربا على الدور مسبقاً. وفي جو مفعم بالتشويق يطلب مارسيل غانم من نقيب المحامين ملحم خلف الذي كان ينظر «مشدوهاً» من بعيد بأن يوفر الحماية لـ«الشاهد».
ومما قاله كشلي: «كان ثمّة حركة مريبة لرجال الأجهزة الأمنيّة في المرفأ في صباح 4 آب قبل وقوع الانفجار.. أنا سائق شاحنة.. لكنني اليوم لا أستطيع أن أقود شاحنتي لأنّني فقدت النّظر في إحدى عيني بسبب الانفجار.. وأنا كنت أنقل بضائع إلى مناطق مختلفة في كل أنحاء لبنان».
هنا سأله مارسيل: هل نقلت بضائع إلى الجنوب؟ أجابه نعم مرّتين، ليعلو التصفيق من الحاضرين!
ولدى قول كشلي بأنه حمل بضائع لا يعرف نوعها من العنبر رقم 14، قاطعه مارسيل قائلاً: هل تم نقل النيترات من عنبر 12 إلى عنبر 14؟! وهنا أجاب «الشاهد» أنه عنى بالرقم 14، الرصيف رقم 14 وليس العنبر!
وعندما سأل مارسيل: هل نستطيع أن نقول إنّك نقلت نيترات الأمونيوم إلى الجنوب؟
أجابه كشلي: «الله أعلم». وأوضح أنّه يريد أن يفضفض اليوم لأنّه منذ سنة لم يتحدّث ويشعر بالاختناق!
وكانت ذروة اللحظات التهريجية عندما سأل مارسيل ضيفه أين أوصلت شحنتك في الجنوب؟ وهنا بُهت السائق الذي يبدو أنه لم يحضر لهذا السؤال كما يجب، أو أنه لا دراية له بمناطق الجنوب، فصمت هنيهة ثم أجاب ببلاهة ظاهرة مكرراً نفس الجواب المبهم ومتنصلاً من الإجابة: «… في الجنوب»!
وبالتالي فإن كل ما أدلى به عماد كشلي كان ملخصه هو التالي: «قمت مرتين بتحميل شحنتين من بضاعة لا أعرف نوعها من الرصيف رقم 14 إلى الجنوب».. فكيف استطاع مارسيل أن يجعل من هذه المعطيات «الخطيرة» حدثاً إعلامياً يستدعي حضور نقيب المحامين ويتطلب توفير الحماية والتدخل القضائي؟
إذن، قطوعان قد مر بهما لبنان الأسبوع الماضي هما أحداث خلدة وذكرى 4 آب مع ما رافقهما من توظيف سياسي ودجل إعلامي وتحريض ممنهج ضد خط سياسي ممانع ومن خلفه شريحة واسعة من اللبنانيين. وعلى نقيض المثل الشائع «مش كل مرة بتسلم الجرة» فإن الجرة في قاموس المقاومة ستظل سليمة وستحافظ عليها برموش العيون لأن كسرها يعني نقل الصراع من مكانه الصحيح إلى الزواريب المذهبية الضيقة!
walidmarmar@gmail.com
Leave a Reply