بعض الموت يثير في النفس أكثر من الحزن. بعض الموت يدفعنا للنهوض من صدمة الأسى فوراً، على وقع نبض حياة أقوى من الفناء.
وحياة الزميلة كاي سبلاني، حياة تستحق الإحتفال في لحظة الموت، وتستبدل العدم بالأمل، خصوصاً وإن تفاصيل هذه الحياة لم تنل حقها من الذكر لتكون في المقام الذي تستحق.
إرتباط عائلي فتح أمام كاي باب التعرف إلى الجالية وقضاياها. لم يكن التعارف عرضاً. رفضت روحها الحرة أن تقبل الظلم الصهيوني في فلسطين، ظلم الحرب في لبنان، ظلم الأمية في الوطن العربي، أو الأهم ظلم التمييز والتجاهل إزاء جالية تحاول، رغم كل شيء شق الطريق الصعب إلى الحلم الأميركي.
وجاء مشروع «صدى الوطن» عنواناً لهذا الرفض منذ اليوم الأول. لم تكن في حينه تبحث عن عمل. كانت في قمة عطائها ونجاحها في المجال الإنساني الذي إختارته أولاً، وهو التمريض، لكن خيارها كان واضحاً فصارت قلب «صدى الوطن» ومحركها.
كان اللقب الرسمي للزميلة الراحلة كاي مديرة تحرير القسم الإنكليزي، لكنها كانت بالفعل عيون «صدى الوطن» وآذانها وفمها. كانت تتابع الأخبار والقضايا بحماس نادر. كانت تكتب مقالاتها وتعليقاتها بشغف عاشق، وتتخذ موقفها من الأحداث بتمرد ثائر، ولم تخف.
في بدايات تلمس طريقها المهني وحضورها الإعلامي في سوق خاص ومناخ مختلف، كانت كاي توجهنا إلى الجانب الأهم من الخبر أو الحدث، كانت تريد لـ«صدى الوطن» أن تكون فاعلة وفعالة في محيطها فتشرح لنا بصبر ودقة خريطة الإعلام ومؤثراته في المجتمع الأميركي وكانت تميز بحنكة بين الأولويات وتركز على المستقبل بوعوده وآماله ؤأشخاصه.
لم يقتصر دور كاي على الكتابة، كانت تلاحق كل شيء، الإعلانات، البريد، الإشتراكات والتوزيع وتبادر إلى كل الأعمال اليدوية داخل المكتب فضلاً عن التواصل مع المطبعة في الإتجاهين ولم تتأفف أبداً حتى وهي تعود إلى المكتب حاملة لنا السندويشات والأكل بعد منتصف ليل الإخراج.
كان إلتزامها المبدئي بقضايا العرب الأميركيين يعصمها عن الخلافات الشخصية ولعنة التنافر، مع أنها دفعت ثمنه غالياً في بيتها ومعيشتها وحتى سيارتها.. لكنها لم تحقد ولم تتأثر. ولأن القضية هي الأهم لم تطلب ولم تقبل تكريماً، وكانت وهي على فراشها المرضي الذي لازمها لسنوات طويلة تتابع العمل يومياً ولم تكف عن المتابعة والكتابة.
ثمة لفتة شخصية لا يسعني إهمالها في هذا الموقف، وهي أن الزميلة كاي سبلاني كانت أستاذتي في«صدى الوطن» علمتني الكثير عن الصحافة والإعلام وعن المجتمع الأميركي الذي لم أكن قد تعرفت عليه بعد. وكانت أستاذتي الأولى في اللغة الإنكليزية، وكانت رغم تقلب الظروف صديقة وفية دوماً، لا تتأخر في مساعدة ولا تنسى أن تسأل عن أطفالي بالإسم.
الدمعة سقطت يا كاي دون إستئذان لأنك إنسانة رائعة في كل شيء. بعد الدمعة وعدٌ متواضع وهو أن تعرف الجالية كيف كانت حياتك لتكون نبراساً لمن أراد العمل العام والعطاء، ولتكون أيضاً شعلة دائمة للأمل بهذا الوطن الذي إخترناه، أمل بأن الأرواح الحرة، مثل روحك الطاهرة، سترفض الظلم وستكون مع الحق.
وللزميل والأخ الكبير أسامة السبلاني الذي يعرف حجم الخسارة، عزاؤك وعزاؤنا أن ذكرى كاي ستبقى مابقيت «صدى الوطن».
Leave a Reply