كان النقاش على أشده، بعد المؤتمر الصحفي الشهير الذي تناول فيه قضية شهود الزور، كاشفا عن الصفقة المالية التي كان يسعى جميل السيد لإبرامها مع سعد الحريري لطي الملف عبر الوسيط (الضحية) مستشار الحريري مصطفى ناصر، فجأة وقف عقاب صقر متهيئاً للرحيل، بعد تلقيه رسالة نصية على هاتفه من أحد مرافقيه، ابتسم قائلاً: «يلا أوم هلأ بتشوفو مش متل ما عم تحكي عنو، الله يساعدو أطيب من قلبو ما في»، وقفت من غير أن أظهر اندهاشي واستغرابي، ونزلنا الى بهو البناية حيث كانت سيارات المواكبة بانتظارنا. نظرت الى لوحة إحدى السيارات (كلها مصفحة ذات لون واحد) وسألت عُقاب: هل أرقام اللوحات هي نفسها على سيارات الموكب كلها؟
الشهيد اللواء وسام الحسن |
ردّ بالإيجاب، فنظر إليّ أحد مرافقيه بريبة مستغرباً سؤالي لما يحمله من مغزى أمني…
كانت المرة الأولى التي أخرج فيها مع عقاب بعد التوتر الذي ضرب البلاد قبل مدة قصيرة من إسقاط حكومة سعد الحريري، وكانت مخاوفي جدية من حصول حادث ما، وإن أخذت طابع الهزل والمزاح الذي يطغى على شخصية كل منا. ففي المرات السابقة عندما كانت تسوية الـ«س-س» تسير على قدم وساق، زارني عقاب في منزلي في قلب الضاحية الجنوبية في حارة حريك، وخرجنا سويا مرات عديدة، وتمشينا في وسط بيروت، ارتدنا مقاهيها الليلية ومطاعمها، وكنت أقول دوماً لعقاب «أنت الحلقة الأمنية الأضعف، فسهولة إغتيالك تشكل إغراءً لمن يرغب بتفجير الـ«س-س»، ألا يمكن لإسرائيل ان تغتالك بسهولة ثم تُتَهم سوريا وحليفها «حزب الله»؟. لم يكن عقاب يستبعد هكذا احتمال… نظرت لمرافقه وقلت ساخراً: كيف يمكن لهذا النائم أن يحميك؟
يضحك عقاب ثم يعدد لي مشاكل مرافقه الإجتماعية والصحية والنفسية وكيف ينسى مسدسه في بعض الأحيان، ويضيف «الله عم ينجيني بحسنتو». فسؤالي عن اللوحات لم يأت من فراغٍ، فاللحظة كانت استثنائية لما تشكله من فرصة مؤاتية وفرها عقاب من خلال مؤتمره الصحفي، إضافة الى الأجواء المشحونة في البلاد، والسيناريو كالتالي: يُغتال عقاب صقر أقرب شخص لسعد الحريري وتتهم سوريا وتنهار الـ«س-س».
غادر بنا الموكب من غير أن يغادرني هاجس الإغتيال، ماذا لو قادني حظي العاثر الى أسوأ نهاية، موت بلا ثمن ولا فائدة وفي المكان الخطأ، لم يُخفني الموت كقدر محتوم بقدر ما روّعتني فكرة أن أصبح أحد «شهداء ١٤ آذار». أتمتم في قلبي تباً لك يا علي، من سيصدق الحقيقة إذا وقعت الواقعة، أو من سيبقى أساساً حتى يروي الحقيقة، سترفع صوري في «ساحة الشهداء» وسيعلنني نهاد المشنوق واحداً من شهداء الأمة، وسيطالب خالد الضاهر بدمائي، والأنكى أن سمير جعجع سيتهم المقاومة بقتلي، وسيدفنني أهلي، إن استطاعوا، سراً في بلدتي الجنوبية.
أتلفّت خلفي، وأنظر أمامي، أقيس المسافة بين السيارة التي تسير خلفي والأخرى التي تسير أمامي، أنظر الى عقاب وأقول فرصة النجاة واحد على ثلاثة. إلى أن وصل بنا الموكب الى بوابة قلعة أمنية وعسكرية بكل ما للكلمة من معنى، فُتحت البوابة وعبر الموكب الى داخل المديرية العامة للأمن الداخلي. للمكان هيبة غير موجودة في سائر مؤسسات الدولة الأمنية، حتى ظننت بأن هناك مبالغة كبيرة بمستوى الجدية والإنضباط، الى درجة أن عناصر متسمرين في زوايا محددة لم يحركوا ساكناً ولم يرمشوا عندما مررنا بجانبهم.
في الطبقة السادسة من مبنى المديرية، كان ينتظر وسام الحسن وصولنا على باب مكتبه، وكأن صداقة حميمة تربطه بي، بادر إلى إحتضاني ومعانقتي مرحباً بي ترحيبا حاراً. سقطت رهبة المكان وتلاشت في مكتب الوسام التي لم يبق منها سوى أسد وفهد لا يخيفان عندما تعلم إنهما محنطان.
لم أشعر للحظة أنني أمام رجل إستخبارات محنّك، بل كان رجلاً على الفطرة والسجية، يتمتع بوجه يميل للبراءة أكثر منه لرجل استخبارات مع ما يطلبه منه ذلك الدور من قساوة وخشونة. لا انكر أن للرجل تأثيراً على محدثه، فهو يتمتع بحس أخلاقي عال وبلباقة كبيرة تأسرك وتجعلك هدفاً سهلاً كي يضمك إلى ناديه السياسي.
لم أشعر بأنني أمام رجل إستخبارات، ولكني كنت أعلم أنه كذلك ومن الطراز الأول، بل أمام نسخة مؤدبة عن جميل السيد في العهد السوري، أمام رجل يمثل تقاطعات إقليمية ودولية، رجل يستعمل السياسة في خدمة الأمن والعكس صحيح،، رجل له علاقاته مع الوسط السياسي بكل تلاوينه، وتربطه بكل الوجوه الإعلامية البارزة أفضل العلاقات، فهو محرك أساسي لكل ما يمكن أن تراه على الساحة السياسية والإعلامية، يوزع الأدوار على النواب والوزراء، ويحدد لكل واحد مهمته، وليس ضروريا أن يكون «الزعيم» أو الوزير أو النائب مستهدفا وفي دائرة الخطر حتى يوجه له العميد تحذيرا بأخذ الحيطة والحذر، فهذه نصيحة لا تُرد، ولا يمكن إلا شكر صاحبها مع ترسيخ الحاجة له وتعزيز الولاء والطاعة. فإذا شاهدت الإعلامية غادة عيد تنبش ملفاً سياسياً أو إنمائياً أو قضائياً معيناً في برنامجها «الفساد»، فاعلم أن وسام الحسن هو من زودها به، وإذا سمعت الإعلامي مرسال غانم يثير موضوعا شائكاً وإشكالياً فابحث عن وسام الحسن، وإذا سمعت سمير جعجع يتحدث بكل ثقة عن معلومات أمنية خطيرة فاسأل وسام الحسن، وعن مغادرة سعد الحريري وعقاب صقر لاحقاً لبنان فليُسأل وسام الحسن. هذا هو سر الرجل وسحره: رجل استخبارات محترف ولاعب سياسي ممتاز يتقن المواءمة بين الدورين ويتمتع بوجه ملائكي يقطر براءة.
أخذت حلاوة اللسان وبادلته بأحسن منها، مستجمعاً قوايَ العقلية والفكرية لخرق جدار الممنوع وتطويع محدثي للنزول عند رغبتي المضمرة في الحديث عن أهم وأخطر موضوع في لبنان على الإطلاق حينها: اتهام «حزب الله» باغتيال الرئيس رفيق الحريري وما يملكه الرجل من معلومات في هذا الإطار. وسط المزاح والتنكيت اللذين لا يمكن تجنبهما بوجود عُقاب، بادرته بالسؤال ممازحاً: «ليش خارب البلد يا وسام؟».. «أنا؟».. ثم عاجلته بالسؤال : «خبّرني وين كنت في 26 و27 أيلول ٢٠٠٥ (ما قاله جميل السيد عن إجتماعه بشاهد الزور محمد زهير الصديق)، من هنا كرت السبحة وكان لي ما أردت، وامتد بي المقام والحديث حتى خيوط الفجر الأولى…
من إجتماعاته المتعددة مع السيد حسن نصرالله والحاج وفيق صفا، إلى قضية إعتقال الضباط الأربعة، إلى ملف شهود الزور واجتماعه بمحمد زهير الصديق، إلى ما يعرف بمجموعة الـ١٣، إلى ملف الإتصالات وعبد المجيد غملوش واغتيال وسام عيد وغيرها من المواضيع التي روت ظمأي ولكنها بالمقابل، طرحت في نفسي ألف سؤال وسؤال.. فخرجت أشد ظمأً، وأكثر حيرة في رجل مهما قيل عنه تبقى قاصراً عن إدراك حقيقته…
يتبع..
Leave a Reply