بالرغم من نشأتي في مجتمع متعدد الطوائف والمذاهب والمراجع وفي بيئة تعتبر فيها الواجبات الدينية “دقة قديمة”، خصوصا لمن هم في عمر المراهقة وفي جو من عدم الإلتزام “الشرعي” بواجبات المسلم “كما ورد في النص”، وجدت نفسي أتقرب من الله “بكامل حريتي ومشيئتي”، وأمارس بضع حركات الرياضة الروحية. أذهلني ديننا الحنيف بما يحمل ويتضمن من موضوعات تغطي جميع تفاصيل حياتنا اليومية، فوجدته “طريقة حياة” تكبح جماح النفس “الأمّارة بالسوء” وتعطي للإنسان صفاء ذهنياً مختلفاً وإنتعاشاً متجدداً للقلب بعد الفراغ من كل فرض.
أحببت هذه الحياة ورحت أتعمق شيئاً فشيء في هذا العالم الروحي الجميل وأتبنى بعض العبادات غير الواجبة واحسبها رصيدا إضافياً في حسابي، عرفت فيما بعد انها تسمى “النوافل”، فأحسست برفعة نفسية ووجدانية عالية داعبت روحي وسكنت فراغات الحياة التي ظننت انها لن تنتهي.
مرت السنون وأنا عبد الله المطيع، أحافظ على الأركان الأربعة الأولى واترك الخامس مركوناُ الى ما شاء الله، اذ ان حج بيت الله “بعد بكير عليه”، و”بعدنا صغار” و”بكرا لما نكوّن حالنا” و”اصلاً ما بيعطوا فيزا الا للفوق الخمسين”…
أشق دربي في هذه الحياة، وانا أحمل كل ما اكتنزته من بذور الإيمان في قلبي متسلحاً برضى الله ورضى الوالدين دون ان أدري أن هذه البذور لن تنمو وحدها، بل هي بحاجة الى رعاية دائمة ومتجددة، حتى تبقى غصون الإيمان مثمرة بما تشتهي نفس كل مؤمن.
تسارع ايقاع الحياة، وكثرت الشؤون الحياتية وبدأ ذاك الشغف يخفُت نجمه في روحي ليبقى بالشكل والفعل لا بالمضمون، فبدأت العبادة تصبع عادة قليلا ما تعبق بروحية الدين وشغف التواصل مع الخالق.
فأصبحت أفترش سجادة الصلاة بالإتجاه نفسه دون أذكّر نفسي اتي أقابل قبلة الله، وأتمتم الآيات حروفاً باردة والدعاء من دون رجاء في حين ان العقل والتفكير يدور حول كل شيء الا الخشوع…
وعند التسليم، اسلم اني أدّيت واجبي تجاه الله وان عامود الدين مُصان وان الملائكة قد كتبت ما عليها ان تكتب وان الأطراف ستشهد حقاّ يوم القيامة اني “بحول الله وقوته” قمت وقعدت…
اما الواجبات الأخرى لم تكن أقل من عادة إعتدتها، فأنا لا لم أدخل قط في مناقشة شهادة الإسلام وبالتالي انا أؤيدها، وشهر رمضان في تقاليدنا قد أصبح من أهم أيام السهر والأكل والدعوات والمسلسلات والخيام والأراكيل ولقاءات السمر والضحك بعد صلاة “التراويح” طبعاً. اما الزكاة “اذا لقو معي شي ياخدوا”…
وعند حضور “تداعيات الموت” الذي ندفعه بكل قوانا بعيدا عنا “من غير اليوم وبعيد من هون وانشاء الله خاتمة الأحزان” نتعظ منها للحظات قبل ان نسارع لنتحدث عن “صوت القارئ” او التسجيل وأصناف الطعام المقدمة و”تذكارات” الفقيد، وكأنها شهادة حضور توزع عند الختام، ناهيك عن اللقاءات بأشخاص لا نراها الا في هكذا مناسبات حتى يصح القول “المصيبة بتجمع”، فنتشارك معهم هموم الحياة وننسى الميت بيننا.
وهكذا وجدت نفسي أقوم بجميع واجباتي الدينية و”ما ناقص الا انو احمل مسبحة وطوّل لحيتي وما رد الا على يلي بيعيطلي حجّ”… واكون اول الواقفين خلف المؤذن في صلاة الجمعة حتى يقال “والله آدمي ما بيأفّي ولا فرض صلاة”، والغريب ان صناديق الصدقات والتبرعات باتت تغرس في قلب مداخل المساجد على مرأى كل الناس حتى يقال أيضا “نفسو كريمي تبرع للجامع”…
وإذا ما عرّجنا قليلاً على أمور الدين المتعلقة بالتعاملات الإجتماعية والتجارية والإنسانية فحتى طعامنا الذي يبدأ بـ”بسم الله” قد لا يكون وجد من مال أتى أيضا بـ”اسم الله”، بل بإسم استغلال الناس والطمع وحتى السرقة والتحايل أحياناً.
“فأعود الى طاولتي لا شيء معي الا كلمات” لكنها كلمات ككل الكلمات، كلمات بالشكل عبادة ولكنها حقاً.. عادة.
الآن أعرف معنى قول رسول الله في وصفه علامات الساعة “القابض على دينه كالقابض على الجمر”، فهل ربي ما عادت قبضاتنا قادرة الا على حمل مفاسد الحياة التي هي حقاً جمرا يوم اللقاء الموعود؟ وهل رحمتك التي وسعت كل شيء سنكون أهلا لها؟
ربي، بعُدنا نحن المسلمون عن الإسلام ولم يبق لنا من الإسلام الا شعارات نستغيث بها في السياسة والتكابر وتوزيع الحصص، فغاب السلام عن قلوبنا وعن حياتنا وزالت بَرَكة المال والطعام والأرزاق والأهل، وسكنت لعنة الموت والدمار والفساد والفرقة طيّات أجسادنا البالية، فهل تجيء بقوم أحسن منا وتبدلنا بهم علّهم يتعظون مما اوصلنا انفسنا اليه، فيبنون الأرض عدلاً وايماناً؟!
Leave a Reply