علي حرب – صدى الوطن
منذ صعود تنظيم «داعش» الارهابي اعتقل «مكتب التحقيقات الفيدرالي» (أف بي آي) الكثير من الارهابيين المشتبه بهم، الأمر الذي يدفع المرء إلى الاعتقاد وكأنه أصبح للمتطرفين موطئ قدم على شواطئنا. ولكن إذا القينا نظرة ثاقبة ومتمحصة على تلك القضايا لاكتشفنا أن السلطات متورطة بشكل كبير في نسج المؤامرات والأفخاخ التي تتفاخر يومياً بإحباطها.
من بروكلين في مدينة نيويورك، إلى ولاية مينيسوتا، وواشنطن، لا يكاد يمضي يوم إلا ونقرأ في عناوين الصحف التي تتضمن أخباراً عن القبض على شبان مسلمين اعتقلوا أثناء محاولتهم السفر إلى الشرق الأوسط للانضمام الى تنظيم «داعش» أو غيره من التنظيمات الأخرى المتطرفة.
ولم يبتعد هذا الهوس الحكومي العام في منطقة جنوب شرقي ميشيغن التي تعتبر موطنا لأكبر الجاليات العربية والإسلامية الأميركية، وذلك عندما ألقي القبض على محمد حمدان -وهو أحد سكان ديربورن وكان عمره حينها 22 عاماً- في عام 2014 بتهمة محاولته الانضمام إلى «حزب الله» الإرهابي، حسب التصنيف الرسمي الأميركي، مع الإشارة إلى أنه خصم لدود لـ«داعش». لقد اتضح لاحقاً، ووفقاً لمحامي حمدان، أن حمدان كان ضحية لمخبر «صديق» يعمل لصالح مكتب التحقيقات الفدرالي، الذي شجعه بحماس على الانضمام للحزب اللبناني المسلح.
وكشف المحامي في حديث مع «صدى الوطن» بعد أن قبل موكله تسوية قانونية، الأسبوع الماضي، أن حمدان كان قد تقدم بطلب للحصول على الجنسية الأميركية، ويحمل وشماً على جسده، كما أنه عاقر المخدرات وعاشر النساء.. وهذه كلها أسباب تجعل الحزب يرفض انضمام حمدان إلى صفوفه.
وقالت والدة حمدان إن ابنها لم يرتكب خطأ، مشيرةً الى أنه «مسالم وضعيف جسدياً وقد يكون مضطرباً، لكنه كان غير مؤذ».
إلا أن هذا لم يمنع الـ «أف بي آي» من تهنئة نفسه بعدما إعترف حمدان باقتراف ذنب الكَذِب (مقابل تبرئته من تهمة الاٍرهاب حسب التسوية) مؤكدا أن القضية «تسلط الضوء على أهمية أعمال التحقيق الذي تقوم به» أي من قبل «قوات المهام المشتركة ضد الإرهاب» (تاسك فورس)، التابعة لمكتب التحقيقات الفدرالي.
كذلك برزت في شهر شباط (فبراير) الماضي قضية أكثر شهرة من الحالة السالفة الذكر، بطلها المتهم خليل أبو ريان، وهو من سكان ديربورن هايتس ويبلغ من العمر 21 عاماً، حيث اتُّهم بالتخطيط لـ«إطلاق نار» على رواد كنيسة في ديترويت، حسب الدعوى القانونية الحكومية. وتحولت الحادثة الى قضية دولية بعدما تصدرت العناوين الرئيسية في الصحف في جميع أنحاء البلاد، وكذلك في صحف «التابلويد» البريطانية .
إلا أن محامي أبو ريان، ترافع عنه وأفاد بأن إحدى عميلات مكتب التحقيقات الفدرالي «استغلت» موكله «وأغرته وورطته».
وكان أبو ريان قد أظهر علامات تبني الفكر المتطرف عبر الإنترنت. وهو بالفعل أخبر العميلة السرية لمكتب التحقيقات الفيدرالي (التي تظاهرت بأنها مهتمة به عاطفياً) أنه اشترى بندقية وقناعا تحضيرا لعملية إطلاق النار على كنيسة بديترويت.
ولكن السلطات لم تجد البندقية التي وصفها ولا القناع، وحالما أطلق أبو ريان هذا الكلام المثير للشكوك، أبدت العميلة الحكومية صراحة عن دعمها لـ«داعش» مدعيةً أنها مستعدة للتضحية بحياتها من أجل التنظيم الارهابي. وكان أبو ريان قد أوضح أنه لا يريد أن يؤذي أحداً وأنه يحتاج إلى مساعدة.
وقد وثَّق موقع «ذي إنترسبت» الإلكتروني العديد من هذه الحالات، حيث تدفع السلطات المشتبه بهم إلى اتخاذ مواقف يمكنها من خلالها توجيه الاتهام لهم.
ووصف رئيس تحرير الموقع، غلين غرينولد، سلوك الحكومة هذا بأنه «شكل من أشكال المحاكمة الوقائية حيث يتم استهداف الأفراد المعرضين للخطر والتلاعب بهم وليس بسبب أعمال إجرامية ارتكبوها بل بسبب وجهات النظر السياسية السيئة التي أبدوها».
وفي حين يقول الـ «أف بي آي» إنه يقوم بمراجعة واستعراض كل قضيةعلى حدة استناداً إلى المعلومات التي قد لا تكون متاحة للجمهور، يؤكد المدافعون عن الحقوق المدنية أن الحكومة تقوم بتجريم التصريحات والتعبيرات الشفهية وتستهدف الأفراد والمجتمعات على أساس دينهم.
إشكالية قانونية وأخلاقية
وفقا للمحامي ستيف فيشمان، فإن التوريط أو الإيقاع في الفخ هو فعل ذاتي بالمعنى القانوني. والحكومة تحتاج الى سبب موجب يحتم عليها إرسال مخبر أو عميل سري لتجريم شخص. هذا يسمى «الاعتقاد أو الافتراض الأولي وعندما تتكون لدى السلطات مخاوف حقيقية حول سلوك شخص ما، فإنها يمكنها أن تستخدم مثل هذه التكتيكات».
الافتراض الأولي، في حد ذاته، يمكن أن يكون قانونياً، فالإعلان عن دعم «داعش» أو «حزب الله» على وسائل التواصل الاجتماعي محمي من قبل التعديل الدستوري الأول، لكنه يمنح مكتب التحقيقات الفدرالي ذريعة قانونية لاستخدام عملاء سريين لتجريم المتهم.
فيشمان لا يرى مشكلة في تجنيد عملاء سريين على نحو قانوني لإدانة المجرمين المحتملين. وأعطى مثالا على ذلك، العملاء المتنكرين كأطفال في المنتديات الالكترونية، الذين تستخدمهم الحكومة للكشف عن/ وإلقاء القبض على المتحرشين بالأطفال.
واستدرك فيشمان أن لديه تحفظات على استخدام المخبرين المدنيين الذين قد تكون لهم علاقات شخصية مع المشتبه بهم. بهذا المعنى، كان أبو ريان ميالاً للتطرف العنيف لأنه شاهد وشارك مقاطع الفيديو حول الإعدامات التي نفذها عناصر من «داعش».
وخلال جلسات الاستماع ما قبل المحاكمة، أكد محامو أبو ريان بأن عميلة الـ«أف بي آي» استمرت بدفعه نحو التطرف.
«لا تفعلي أي شيء قد يصيبك ويصيب أشخاصاً آخرين بأذى»، كتب المتهم إلى العميلة، وفقاً لوثائق المحكمة. وفي تواصل آخر بينهما أخبرت العميلة أبو ريان أنها مستعدة لإعطاء حياتها «لداعش»، فكان رد أبو ريان «أنت شابة ومشوشة».
وأكد فيشمان أنه «لا يجب على الحكومة أن تحمس المشتبه بهم لارتكاب جريمة… لدي مشكلة كبيرة مع ذلك».
بدوره صرَّح آرثر وايس، محامي حمدان، لـ«صدى الوطن»، الأسبوع الماضي، «أن الحصول على هيئة محلفين غير متحيزة في الحالات التي تنطوي على ادعاءات الإرهاب هو تحدٍ كبيرٍ بسبب الخطاب السياسي السائد المعادي للإسلام».
وزاد فيشمان على ذلك بالقول «تلك المخاوف ليست من دون أساس، لا سيما في ضوء صعود نجم سياسيين مثل دونالد ترامب.. أنت تكون مجنوناً إذا تجاهلت حقيقة أن هناك تحيزا كبيرا ضد المسلمين وضد السكان المتحدرين من أصل عربي».
كذلك اشتكى المحامي بيل سوور «من المناطق الرمادية في القانون عندما يتعلق الأمر بإيقاع المتهم في الفخ»، وتابع «إن التفسيرات القانونية تتأثر بالمناخ السياسي».
وينحدر معظم سكان ديربورن اللبنانيين الأميركيين من القرى اللبنانية الجنوبية، حيث يتمتع «حزب الله» بدعم شعبي عارم. وقد أكد سوور أن «الحكومة لن تشير إلى مذهب أو قومية المشتبه به في المحكمة لتصويره على أنه مؤيد لحزب الله. لكن ضمنياً، من خلال الطريقة التي تنتهجها الحكومة في هذه الحالات يمكن للمرء أن يفترض أنها تنظر إلى الجالية بأنها لديها استعداد أولي».
وتساءل سوور «كيف يقوم عملاء الحكومة من الناحية القانونية بدفع المشتبه بهم لارتكاب الجريمة؟” متأملاً العثور على الإجابة على هذا السؤال خلال حياته. وأشار إلى سلوك مكتب التحقيقات الفدرالي في قضية جديدة حيث قام عميل سري بدفع المشتبه به بصراحة نحو التطرف العنيف واصفاً ذلك بأنه “مشينٌ تماماً».
«قبل عشرين عاماً، أعتقد أنه كان يمكن أن ينظر إلى هذا السلوك على أنه متطرف جداً»، أوضح سوور، وأضاف: لكن اليوم، في هذا الجو، لم يقل أحد أنه غير مقبول.
وحذر سوور من الاعتقاد بأن المشتبه بهم لديهم نية لإقران أقوالهم بالأفعال التي قالوا إنهم سيتخذونها «فأنت يمكنك الذهاب إلى أي مقهى أو أي مطعم وتسمع هناك أشياء رهيبة».
وتابع سوور «أن الأفراد العنفيين في كثير من الأحيان لا يكشفون عن خططهم ونواياهم. إن قانون البلاد يفيد بأن الناس يمكن أن يقولوا أشياء فاحشة وبغيضة دون توقع عقوبة جنائية، لذلك لا أعتقد أنه من العدل -سواء للجالية أو الفرد المدعى عليه- نسب نية العمل الإجرامي إليهم، فقط بسبب خطاب الكراهية».
وعلى الرغم من الشكوك بشرعية سلوك الحكومة عندما تدفع المشتبه به نحو الإجرام، يعتقد سوور أنه ليس من العدل بشيء «فقيام الحكومة باستهداف النَّاس الذين يجلسون ويتجاذبون أطراف الحديث فقط، فتشجعهم وتوفر لهم الوسائل لارتكاب افعال خاطئة، هو أمر يتعارض مع التقاليد القانونية لدينا، وأعتقد أنه غير أخلاقي».
وأسهب المحامي بالإيضاح بالقول «إن مثل هذه التكتيكات لا تجعل أميركا أكثر أمناً. كما إن هناك عنصر السياسة لدى وكالات إنفاذ القانون التي تخلق حوافز للسياسات مثل الايقاع بالأفخاخ القانونية. وهم يفعلون ذلك لأنها تعطي الناس شعوراً زائفاً بالأمن».
وتساءل «لماذا هناك مصلحة لأي واحد في أن يساعد مشتبهاً كثير الكلام على اقتران كلامه بالفعل الجرمي؟» واستمر بالتساؤل «ما هو أرخص وأسرع، ومن يحوز على المزيد من الدعاية؟ الجلوس لساعات عمل طويلة ومراقبة النَّاس لاصطياد المشاكل الحقيقية، أو إجبار شخص ما على أن يفعل شيئاً؟».
وقارن سوور«بين نهج السلطات في مكافحة الإرهاب وبين الحرب على المخدرات، التي قادت الحكومة لتدوير الزوايا حول الحقوق المدنية داخل وكالات إنفاذ القانون. إن الحرب على المخدرات لم تقلل من استخدام المخدرات، ولكن المرتكبين ذهبوا الى السجن مرات لا يعلم عددها الا الله وما نراه اليوم مع قضايا الإرهاب هذه هو نفس الشيء».
التوريط .. ليس حديثا
جيسي ساندين، عضوة جمعية «إيقاف قمع مكتب التحقيقات الفدرالي»، على علم بالتكتيكات المشبوهة التي تتبعها وكالة الـ«أف بي آي»، حيث أنها كانت عضواً في لجنة «مناهضة الحرب» بين عامي 2008 و2010. وقد أرسل الـ«أف بي آي» عميلة سرية لاختراق صفوف المنظمة المناهضة للحرب بعد احتجاجات نفذتها أمام المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري في عام 2008.
وقد بدت المخبرة السرية طبيعية وأصيلة عندما كانت تحث المجموعة مراراً وتكراراً لدعم المنظمات الفلسطينية والكولومبية الموضوعة على القائمة السوداء، باسم التضامن. «لقد كانت تسأل مرة بعد مرة سؤالاً كان يبدو وكأنه سؤال بريء، ويجعلك تشعر وكأنه آتٍ من شخص متعاطف تماماً»، كما شرحت ساندين عن أسلوب العميلة الحكومية.
ومضت ساندين تقول «كان لدى العميلة اهتمام خاص بعمل التحالف، لاسيما مع الجالية الصومالية المحلية ومن خلال موقعها داخل اللجنة المناهضة للحرب، تجسست على المسلمين والمنظمات الأخرى في الجالية، كذلك».
في عام 2010، وبعد أكثر من عامين من التجسس والتحريض من قبل العميلة، داهم مكتب التحقيقات الفدرالي منازل أعضاء الحركة وقام بتفتيشها. ودعت الحكومة قادة اللجنة المناهضة للحرب للإدلاء بالشهادة أمام هيئة محلفين كبرى لكنهم رفضوا.
واضافت ساندين «كانوا -مسؤولو الحكومة- يريدون الحصول على أي مراسلات مع أي شخص يعيش في كولومبيا أو فلسطين».
وتجد ساندين أوجه شبه بين محنة اللجنة المناهضة للحرب وقضايا الإرهاب الأخيرة. وقالت إن الحكومة «تحاول تجريم الناس بسبب تفكيرهم. ليست طبيعية ابداً فكرة قيام ضابط من الحكومة بإنفاق سنوات من التجسس والكذب على مواطني هذا البلد ومحاولة إقناعهم أو تقديم اقتراح ليأكلوا الطعم ثم يتم الاعتبار أن تلك النوايا نابعة من أعماق الموقع بهم».
لا اعتذارَ عن ذلك
ورد ديفيد جيليوس، مدير مكتب التحقيقات الفدرالي في ميشيغن، في حديثٍ مع «صدى الوطن» في وقت سابق من هذا الشهر، «إن المكتب يتعامل مع كل حالة فردية بنفسها وعلى حدة»، مضيفاً «أن الوكالة لديها قواعد لتجنب حالات الوقوع في الشرك».
«بصراحة، إذا كانت هناك قضايا تفخيخ في أي شيء نقوم به، يصبح من الصعب جداً على مكتب المدعي العام في الولايات المتحدة ملاحقة هذه الحالات لذلك نعطي قدراً كبيراً من الجهد لمنع أي حالات إيقاع في الفخ»، أصر جيليوس. وأضاف «إن القاضي يمكنه تحديد ما إذا كان المتهم قد وقع في الشرك أم لا». والحقيقة انه لم يتم تعريف الإيقاع بالأفخاخ من خلال التصور العام، بناء على ما تيسر من القليل من المعلومات التي يعرفها العامة عن التحقيق.
أما بالنسبة لاستخدام المخبرين، فقد قال مدير الـ«اف بي آي» إن بعض أعضاء الجالية يتقدمون بمعلومات «مع أنهم ليست لديهم بالضرورة علاقة رسمية مع مكتب التحقيقات الفدرالي. البعض يفعل ذلك لدوافع متعددة، وهؤلاء يمكن أن نطلق عليهم لقب المخبرين. البعض منهم مواطنون يتصلون بنا لإعطاء المعلومات. وكل هذه المعلومات هي عن الأشخاص الذين يحتمل أنهم خرقوا القوانين الفدرالية أو يحتمل أنهم يشكلون تهديدا لأمننا القومي، لذلك أنا لا أقدم اعتذاراً على حقيقة أننا نعتمد على الجمهور للحصول على معلومات».
Leave a Reply