انتفاضة ٧٦٩١: النهب العفوي .. والعنف الثوري
إعداد: أحمد السبلاني
مع بداية عقد الستينات، كانت ديترويت قد مرت بتحولات اجتماعية واقتصادية وسياسية كان لها أثر حاسم في تحديد مصير المدينة خلال العقود اللاحقة.
فعلى المستوى الاجتماعي، استمر تراجع عدد السكان، في ظل تواصل نزوح البيض نحو الضواحي التي ظلت محظورة على السود حتى أواخر الستينات، حيث كان السكان المتعصبون، فور معرفتهم بانتقال عائلات السود إلى أحيائهم، يسارعون إلى التظاهر أمام منازلهم ويعتدون عليهم ويحطمون النوافذ وأحياناً يضرمون النار بممتلكاتهم، وفي نفس الوقت تبنت عدة بلديات محاذية لديترويت، مثل ديربورن، سياسات عنصرية واضحة ترفض انتقال السود للعيش فيها.
أدى ذلك إلى انحصار السود بمدينة ديترويت في حين قُدّمت كل التسهيلات الفدرالية لانتقال البيض إلى الضواحي، فشهدت المدينة خلال الخمسينات، تضخم أعداد السود حتى بلغت نسبتهم حوالي ٢٩ بالمئة من أصل ١.٦٧ مليون نسمة، وفق إحصاء ١٩٦٠، واستمرت نسبتهم بالنمو عاماً تلو آخر.
اقتصادياً، فقدت المدينة خلال عقد الخمسينات آلاف فرص العمل مع تراجع طفرة الانتاج الاستهلاكي في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية كما هاجزت العديد من الصناعات إلى الضواحي. فتم إلغاء آلاف الوظائف الصناعية، وتشكلت بوادر أزمة بطالة ازدادت تعقيداً مع استمرار نزيف فرص العمل خلال الستينات، وكان السود الأكثر تأثراً بها.
أما على المستوى السياسي، فازداد الوعي العام والإيمان بالقدرة على التغيير في مجتمع الأفارقة الأميركيين ليصبح أكثر تنظيماً وفعالية، بقيادة «الجمعية الوطنية لتقدم الملونين» NAACP مدعومة من الحزب الديمقراطي ونقابات العمال وعلى رأسها «اتحاد عمال السيارات». وكانت لكتلة الناخبين السود في المدينة الكلمة الفصل في الإطاحة برئيس البلدية لُوي مرياني، في انتخابات العام ١٩٦١، التي فاجأ خلالها المرشح الديمقراطي الشاب جيري كافانو أنصاره قبل خصومه بفوز عريض على مرياني الذي كان بذلك آخر رئيس بلدية جمهوري يحكم المدينة.
انقلاب انتخابي وأفق جديد
خاض كافانو انتخابات 1961 كأول تجربة سياسية له، وكان محامياً لم يتجاوز عمره الـ٣٣ عاماً، بمواجهة مرياني الذي كان يحظى بدعم أبرز الجهات الوازنة انتخابياً كالنقابات والمؤسسات الكبرى وكذلك هنري فورد الابن، إلا أنه واجه هزيمة مباغتة على يد خصمه الشاب الذي خاض حملة انتخابية شرسة نجح خلالها في الاستئثار بأصوات كتلة الناخبين السود الذين شعروا بسخط وإحباط شديدين تجاه مرياني، كما انجذبوا إلى شعارات كافانو الليبرالية المنادية بالعدالة الاجتماعية والدمج العرقي وإنهاء الفصل العنصري وتنويع دوائر الشرطة والإطفاء وسائر الوظائف البلدية التي كان يسيطر عليها البيض بشكل شبه مطلق.
كذلك، كان لمواصفات النجم الصاعد في عالم السياسة، تأثيراً ساحراً على الناخبين البيض المعتدلين، لاسيما لتعدد أوجه الشبه بينه وبين الرئيس الأميركي جون أف كينيدي الذي كان قد انتخب في العام السابق (١٩٦٠) رئيساً للبلاد، وكلاهما ديمقراطيان كاثوليكيان من أصول أيرلندية، ويتمتعان بكاريزما خطابية فريدة.
وكان مرياني بداية ذلك العام، قد أثار سخط الشارع الإفريقي الأميركي على ضوء حملة أمنية موسعة شنتها الشرطة في إطار التحقيق بمقتل شابتين من البيض تعرضتا للسرقة والضرب والطعن حتى الموت في كانون الأول (ديسمبر) ١٩٦٠. كان ذلك الشهر الأكثر عنفاً في تاريخ المدينة منذ حرب مافيات الكحول التي روّعت ديترويت في عشرينات القرن العشرين.
أثارت عنصرية ووحشية الشرطة في التعامل مع السود خلال تلك الحملة التي طالت أكثر من ألف مشتبه به من الأفارقة الأميركيين، غضباً عارماً بين السكان مما أثر سلباً على حظوظ مرياني الانتخابية، بالتفاف الناخبين السود الكامل حول كافانو وإقبالهم غير المسبوق على التصويت له يوم الاقتراع، تحت شعار «تفو على لوي» Phooey on Louis بعد أن اتهمه الحقوقيون السود بأنه يوفر الغطاء لممارسات الشرطة العنصرية الممعنة بإذلال مجتمع النيغرو وإهانته.
فور توليه منصبه مطلع العام ١٩٦٢، سارع كافانو إلى تطبيق سلسلة برامج إصلاحية، حيث قام بتوظيف السود في مختلف الدوائر البلدية فارضاً الدمج العرقي في الإدارات والوظائف الحكومية، إلى جانب مكافحة التفرقة العنصرية في الإسكان والعمل والخدمات.
كذلك استغل رئيس البلدية الجديد الدعم المطلق من قبل إدارة الرئيس ليندون جونسون التي أغدقت الأموال على ديترويت في إطار مشروع جونسون لـ«المجتمع العظيم» و«محاربة الفقر» ضمن ما عرف ببرنامج «المدن النموذجية» الإصلاحي. فأطلقت المشاريع والبرامج الإسكانية المتنوعة في المدينة التي بدت وكأنها في مسار نهضوي جديد بوصفها واحدة من أكثر مدن الولايات المتحدة انفتاحاً وتقدمية، رغم الخيبة التي تلقتها ديترويت بعدم استضافة الألعاب الأولمبية لعام ١٩٦٨، بعد أن انتزعتها العاصمة المكسيكية عام ١٩٦٣.
لم يكتف كافانو فقط بتحسين ظروف عمل ومعيشة السود الذين كانت لهم حصة الأسد من المساعدات الفدرالية، بل كان رئيس البلدية أيضاً، نصيراً بارزاً لحركة الحقوق المدنية التي كانت تخوض في ذلك الوقت مواجهات دامية في ولايات الجنوب الأميركي في إطار صراعها الطويل لتحقيق الحرية والمساواة بين الأعراق.
ولعل أكثر اللحظات تجلياً في هذا الإطار، كانت الدعوة التي وجهها كافانو إلى زعيم حركة الحقوق المدنية مارتن لوثر كينغ إلى ديترويت في العام ١٩٦٣، حيث سارا جنباً إلى جنب في طليعة «مسيرة الحرية» التي ضمت زهاء ١٢٠ ألف متظاهر جابوا جادة وودورد، التي كانت قبل عقدين خط تماس عرقي (راجع الجزء الثاني) مطالبين بالعدل والمساواة، فيما ألقى كينغ في ختام ذلك اليوم كلمة تاريخية في «مركز كوبو» الذي غصّ بالأفارقة الأميركيين لأول مرة، وهي الكلمة التي شكلت نواة خطابه الشهير «لدي حلم» الذي ألقاه بعد عامين في واشنطن (١٩٦٥).
تحديات متجذرة.. وصعود خطاب العنف
ورغم التقدم الكبير الذي حققه مجتمع السود في ديترويت خلال عهد كافانو، إلا أن أعباء التاريخ العنصري للمدينة لم تتبدد بين ليلة وضحاها.
وأحد أكبر التحديات التي اعترضت إصلاحات كافانو، كانت مسألة مكافحة العنصرية في صفوف الشرطة وطريقة تعاملها اللاإنسانية مع السود. ورغم تعيين قائد إصلاحي على رأس الدائرة، إلا أن الممارسات العنصرية كانت متجذرة في شرطة المدينة التي تربت على عقلية الفصل العنصري والمعاملة الدونية للنيغرو. فاعتاد عناصرها على التوقيف والتفتيش والاعتقال العشوائي للصبيان والرجال السود –من دون مبرر قانوني أو عرضهم على المحاكم– إلى جانب ضربهم وإذلالهم أمام العامة في الشارع واستخدام العنف المفرط لإخضاعهم.
وقد قوبلت جهود إدارة كافانو لتهذيب وتنويع الجهاز بضم عناصر سود إليه، بحملة استقالات واسعة ومعارضة داخلية وصلت إلى حد إضراب معظم عناصر الدائرة الذين تمارضوا في يوم واحد احتجاجاً على سياسات الإدارة وعدم الاستجابة لمطالبهم برفع الأجور، وقد أدت الخلافات المتنامية بين البلدية وضباط الشرطة إلى ارتفاع ملحوظ في معدلات الجريمة لاسيما في أحياء السود.
ورغم كل الجهود التي بذلتها إدارة كافانو، لم تتجاوز نسبة العناصر السود في الدائرة بحلول العام ١٩٦٧ حاجز ٥ بالمئة من إجمالي عناصر الدائرة الذين قدر عددهم حينها بحوالي ٤٣٠٠ عنصر، في حين كان السود في المدينة قد باتوا يشكلون حوالي ٤٠ بالمئة من السكان، فيما بلغت نسبة البطالة بين الشباب منهم حوالي ٢٥ بالمئة.
وإذا كان عهد كافانو قد أفلح في تشكيل طبقة وسطى كبيرة من الأفارقة الأميركيين في ديترويت، غير أن طبقة أخرى من السود الفقراء والمهمشين أخذت تتنامى لتشكل خطراً متزايداً على أمن المجتمع، لاسيما وأن هذه الفئة المهمشة شكلت بيئة خصبة للخطاب الثوري الذي دعا إلى اعتماد العنف كسبيل لتحقيق المساواة، والذي روج له العديد من قادة السود أوائل الستينات، في مقابل المسار السلمي للنضال الذي انتهجته قيادات حركة الحقوق المدنية منذ تبلورها في ثلاثينات القرن الماضي.
وقد أخذ التيار العنفي يعبر عن نفسه بشكل أوضح على المسرح الوطني في أعمال الشغب التي اندلعت صيف ١٩٦٥ في حي «واتس» بمدينة لوس أنجليس والتي أعقبتها أحداث مماثلة في العديد من المدن الأميركية تخللها سقوط ضحايا وأعمال نهب وتخريب وإضرام حرائق كان أبرزها في نيويورك وكليفلاند ونيوارك والعشرات من المدن الأخرى في صيفي ١٩٦٦ و١٩٦٧.
وفي حزيران ١٩٦٧، أطل أحد زعماء السود المتشددين، أتش. راب براون، رافعاً قبضته أمام حشد من أبناء ديترويت قائلاً: «فلتعلم أميركا البيضاء أن اسم اللعبة الآن هو: هذا لذاك، العين بالعين، والسن بالسن، والحياة بالحياة»، مهدداً بإحراق ديترويت في حال لم تتم الاستجابة لمطالب السود بالعدل والمساواة.
ورغم تحذيرات أخرى بشأن إمكانية وقوع أعمال عنف في ديترويت، أصر كافانو على أن مدينته، تشكل نموذجاً وطنياً للانفتاح والتقدم والعدالة الاجتماعية، مستبعداً إمكانية اندلاع انتفاضة عرقية فيها، خاصة وأن نسبة كبيرة من السود في ديترويت يعيشون حياة مزدهرة وقادرون على امتلاك المنازل والسيارات الجديدة والحصول على التعليم والعيش برغد. لكن توقعات كافانو خابت هذه المرة.
الشارع ٢١
إذا كان حي «القعر الأسود» الذي اندثر مطلع الستينات، مهداً ومركزاً لمجتمع السود في ديترويت خلال النصف الأول من القرن الماضي، فإن حي «الشارع ١٢» (١٢ ستريت) في الجانب الغربي من المدينة، شكل مركزاً جديداً لهم منذ مطلع الستينات، فانتشرت على ضفتيه المحال والمتاجر المتنوعة وانتقلت آلاف أسر السود من الطبقة الوسطى والعاملة، للسكن في محيطه، فيما كان امتداده إلى الشمال من تقاطع فيرجينيا بارك بمثابة «منطقة ترفيهية حمراء»، يقصدها الزبائن البيض والسود من مختلف أنحاء جنوب شرقي ميشيغن وولاية أوهايو وكندا، لقضاء وقت مثير وممتع في مرافق الدعارة والمخدرات والقمار والملاهي وغيرها من الأنشطة القانونية وغير القانونية التي اشتهر بها الحي.
وللمفارقة، فإن حي «الشارع ١٢» كان حيّاً يهودياً خلال الحرب العالمية الثانية، قبل أن يتحول فيما بعد إلى حي للسود ويصبح الأكثر اكتظاظاً في المدينة، تماماً كما جرى للـ«القعر الأسود» قبل إزالته بالكامل.
وعلى الشارع ١٢ الذي أطلق عليه لاحقاً اسم «روزا باركس بوليفارد»، وتحديداً عند تقاطع كليرمونت، داهمت الشرطة حوالي الساعة الثالثة صباح ٢٣ تموز (يوليو) ١٩٦٧، نادياً اجتماعياً وحانة غير قانونية لبيع الكحول في الطابق الثاني من مبنى مطبعة «إيكونومي برنتينغ»، حيث تفاجأ عناصر الدورية بوجود ٨٣ شخصاً يحتفلون بعودة جنديين من الأفارقة الأميركيين من حرب فيتنام، فتقرر اعتقال كل الحاضرين وتمت مصادرة ستة صناديق بيرة.
ونظراً لعدد المعتقلين الكبير تطلبت عملية نقلهم استدعاء تعزيزات وعدة ساعات إضافية حتى بزغت خيوط الفجر الأولى وبدأت سيارات الشرطة المنتشرة في أرجاء المكان تجذب أنظار المارة وسكان الحي الذين سرعان ما بدأوا بالتجمهر في المكان بداعي الفضول، وفيما كانت سيارات الشرطة المحملة بالمعتقلين تدبر متوجهة إلى «القسم ١٠» سيء الصيت، قام أحد الغاضبين برشق آخر سيارة شرطة مغادرة بحجر طوب تعبيراً عن سخطه الشديد على عنصرية الشرطة وتعاملها مع المعتقلين، ليطلق برميته تلك شرارة واحدة من أشد الاضطرابات العامة فتكاً ودماراً في تاريخ الولايات المتحدة بعد الحرب الأهلية الأميركية.
وبينما يختلف المراقبون حول توصيف ما جرى بين أعمال شغب أو انتفاضة أو ثورة، لا يختلف اثنان على أن تلك الأحداث الدامية غيرت وجه ديترويت إلى الأبد.
نهب عفوي
ما أن غادرت سيارات الشرطة موقع المداهمة على الشارع ١٢ تحت وابل المقذوفات التي أتبعت الطوبة الأولى حتى دبت الفوضى العارمة في أوساط المحتشدين الساخطين على ممارسات الشرطة العنصرية، وكانت أولى ردود الفعل الانتقامية قد تمثّلت بتحطيم واجهة متجر مجاور للملبوسات، ولما وجد المحتشدون أن الشرطة لن تعود إلى المكان لضبط الأمن بدأت أعمال النهب لتتوسع سريعاً بشكل عفوي وتطال كافة المحال والمتاجر على طول الشارع ١٢ في جو وصف بالـ«كرنفالي» حيث أقدمت الحشود (بينهم بيض) على تحطيم المتاجر ونهب محتوياتها، فيما وقف عناصر الشرطة خلال الساعات الأولى من الأحداث دون تحريك ساكن، وذلك بناء على أوامر رئيس البلدية كافانو بضبط النفس وعدم استخدام الرصاص والغاز المسيل للدموع لتفريق الحشود، ظناً منه أن أعمال الشغب سوف تنحسر ويعود الجميع إلى أدراجهم، لكن الأمور أخذت تتفاقم.
كان عديد الشرطة في الخدمة صبيحة ذلك اليوم لا يتجاوز ٢٠٠ عنصر، في حين تنامت الحشود الغاضبة إلى أكثر من ١٠ آلاف شخص بحلول الظهيرة، مما تطلب استدعاء العناصر من عطلتهم لاحتواء الحدث الطارئ، وتم الاكتفاء بضرب طوق حول الشارع ١٢ لمنع تمدد أعمال الشغب إلى الأحياء المجاورة، فيما لجأت وسائل الإعلام المحلية إلى التعتيم على الأحداث في مسعى لاحتواء الموقف، وسط دعوات قادة المجتمع المحلي للحشود الغاضبة على الأرض بالعودة إلى رشدهم، ولكن خطاب العنف الثوري كان الأرجح كفّةً.
ازداد الموقف خطورة وتعقيداً وارتفعت وتيرة الاحتجاجات وسط مشاعر الغضب التي عمت الجموع فبادر الحشد إلى رشق دعاة السلمية وعناصر الشرطة بالحجارة والزجاجات الفارغة، ليتغير الموقف على أثر ذلك جذرياً، من الأجواء الاحتفالية بالنهب، إلى أعمال شغب غاضبة رفضاً لبطش الشرطة والعنصرية وغلاء الأسعار وغيرها من الشعارات التي وجدت أن الكيل قد طفح ولا بد من الانتقام. دُفعت قوات الشرطة إلى الانسحاب من الشارع ١٢ ومحيطه تحت ضغط الجماهير الغاضبة، لتخلو الساحة أمام المتظاهرين الذين بادروا إلى إشعال الحرائق في عدد من المباني المنهوبة تعبيراً عن غضبهم وثورتهم على النظام، ولدى وصول عناصر الإطفاء لإخماد النيران تم اعتراضهم بالطوب والعبوات الفارغة، ولاحقاً برصاص القناصين، فيما ردد المنتفضون: «احترقي يا حبيبتي احترقي».
لم يعد بالإمكان تجاهل خطورة الموقف.
في البداية، تردد رئيس البلدية الديمقراطي بطلب المساعدة من حاكم ميشيغن الجمهوري جورج رومني، ولكنه اضطر إلى تجرع الكأس السياسية المُرّة مع اتساع رقعة النهب والحرائق في ساعات ما بعد الظهر لتطال شوارع لينوود ودكستر وغراند ريفر، فأعطيت الأوامر لشرطة ميشيغن بمساعدة شرطة ديترويت في استعادة الأمن، في حين بدأ عناصر الحرس الوطني في الولاية بالانتشار في مناطق التوتر ابتداء من الساعة السابعة مساءً ليصل عددهم في وقت لاحق إلى ما يقرب من ثمانية آلاف عنصر.
تولت شرطة المدينة بالتعاون مع شرطة الولاية ومقاطعة وين، مهمة اعتقال السارقين، فتم احتجاز المئات خلال اليوم الأول من الأحداث، معظمهم من السود، وقد تم الزج بهم في سجون نقالة، في مسعى حثيث لاستعادة الأمن وإخلاء الشوارع من المشاغبين، ولكن لم تجد تلك الخطوات نفعاً، بل اتسعت أعمال الشغب والحرائق المنظمة لتطال شارعي جوي وغراند بوليفارد، وسجلت أولى حوادث القنص حوالي الساعة التاسعة مساء، حيث تم استهداف مروحية للشرطة من على شارع سيوارد، كما أصيب إطفائي أثناء محاولة إخماد النيران.
أصدر كافانو أوامر بإغلاق جميع الحانات والمسارح ومحطات الوقود، معلناً عن حظر تجول ابتداء من الساعة التاسعة يومياً، ولكن القرار تم خرقه على نطاق واسع، فيما وقف عناصر الشرطة والحرس الوطني عاجزين عن فرض الأمن، حيث تلقت السلطات في ذلك اليوم ما يقرب من ٢٣٠ اتصال طوارئ في الساعة الواحدة ودخلت المدينة حالة من الذعر مع انتشار الأخبار باندلاع حرب عصابات في شوارع ديترويت.
حرب شوارع
بحلول منتصف الليل، كانت الميليشيات المتشددة قد دخلت طرفاً أساسياً في الأزمة، لتأخذ الأمور منعطفاً أكثر حدة ودموية بإشعال حرائق منظمة والتصدي للشرطة والإطفاء برصاص القناصين الذين انتشروا في بؤر التوتر. كما قامت المجموعات الراديكالية بنهب وتخريب متاجر الكحول والأسلحة والصيدليات على شوارع غراند ريفر وليفرنوي وماك ولينوود ودكستر، حيث تم الاستيلاء على أكثر ٢٥٠٠ قطعة سلاح من متاجر المدينة كما تم إحراق أكثر من مئتي متجر للكحول. وقام المسلحون بافتعال الحرائق مستخدمين قنابل المولوتوف يدوية الصنع كما استهدفوا رجال الإطفاء بشكل ممنهج أثناء محاولتهم إخماد النيران التي خرجت عن السيطرة في ٤٠ موقعاً رغم مشاركة دوائر الإطفاء في الضواحي بجهود السيطرة عليها.
المدينة ظلت تحترق طوال يوم الاثنين على وقع الاشتباكات بين المسلحين والحرس الوطني والشرطة على جانبي المدينة، حيث كانت قوات الحرس الوطني تخوض حرب شوارع غير مدربة عليها، في حين لجأت عصابات السود إلى استهداف أقسام الشرطة برصاص القنص على شوارع ماك وغراشت وسان جون وجيفرسون في الجانب الشرقي من ديترويت، فيما كانت الحرائق تلتهم المزيد من المباني على الشوارع الرئيسية في غرب المدينة في ظل عجز تام عن احتواء الموقف طوال ساعات النهار لتزداد المهمة تعقيداً مع حلول الليل وسريان حظر التجول لليوم الثاني، مما وضع عناصر الحرس الوطني تحت ضغط شديد فسقط العدد الأكبر من القتلى على يدهم.
أدى تدخل الحرس الوطني في ميشيغن، الذي يتشكل من العناصر البيض، إلى تفاقم خطورة الموقف الذي ازداد تعقيداً وعنفاً مع اشتداد وتيرة الحرائق وأعمال النهب والتخريب وحوادث إطلاق النار، كما كان لفوضوية تعامل الشرطة مع المعتقلين بعد إطلاق يدها لاستعادة الأمن، إضافة إلى قلة خبرة عناصر الحرس الوطني في احتواء أعمال الشغب في المدن، دوراً أساسياً في تسعير الخطاب الراديكالي بين السود مع توارد الأنباء عن وقوع قتلى كثر منهم، فاشتدت المواجهة وتحولت إلى حرب شوارع مكتملة العناصر بين المتشددين السود وقوات الأمن المتعددة، لتبلغ حصيلة القتلى في نهاية اليوم الثاني ١٧ قتيلاً معظمهم سود قضوا برصاص قوات الحرس الوطني والشرطة التي أصيب العشرات منها خلال الاشتباكات.
تدخل الجيش
سادت حالة من الرعب والفوضى أنحاء المدينة التي عانت من شلل تام وسط انتشار أعمدة الدخان وتواصل أعمال النهب والتخريب والاشتباكات المسلحة، فيما لجأ الكثيرون من السكان وأصحاب المتاجر إلى حمل السلاح لحماية ممتلكاتهم من العصابات التي عاثت خراباً في ١٦٠ بلوكاً من أحياء المدينة، دون أن تتمكن قوات الشرطة المحلية والحرس الوطني من بسط الأمن في ظل عمليات الكر والفر التي شنها المسلحون مستخدمين الأسلحة النارية وقنابل المولوتوف يدوية الصنع لافتعال الحرائق.
لم تثمر محاولات التهدئة السياسية التي تواصلت على مدار الساعة لتفادي استدعاء الجيش وفرض الأحكام العسكرية في ديترويت، فكان إصرار الثائرين على «إحراق المدينة وتلقينها درساً» أقوى من الخطاب الداعي إلى التهدئة والحلول السلمية، حتى أن النائب الديمقراطي الشاب حينها، جون كونيرز (عميد الكونغرس الأميركي حالياً)، توجه مساءً إلى الشارع ١٢ منادياً الحشود عبر مكبر الصوت بالعودة إلى ديارهم وإعادة الهدوء إلى المدينة. ووقف كونيرز على غطاء سيارة وصرخ من خلال البوق قائلاً: «نحن معكم، من فضلكم، هذه ليست الطريقة للقيام بالأمور! يرجى العودة إلى دياركم!» ولكن الحشد رفض الانصياع وبادر إلى قذف سيارة النائب بالحجارة والزجاجات الفارغة فاضطر إلى الانسحاب لتبقى الساحة خالية أمام دعاة العنف.
أدرك المسؤولون أن الأمور قد خرجت تماماً عن السيطرة رغم مشاركة ٨ آلاف عنصر من الحرس الوطني في جهود استعادة النظام، فكان لا بدّ من الاستعانة بالجيش الأميركي لقمع الانتفاضة، غير أن الرئيس الأميركي آنذاك ليندون جونسون رفض إرسال الجيش مطالباً رومني، الذي كان حينها مرشحاً بارزاً للرئاسة الأميركية، بالإقرار بفشله بحفظ النظام والاعتراف بحدوث حالة عصيان كشرط لتدخل الجيش. وهو ما تم في منتصف الليل بعد رضوخ الحاكم الجمهوري لمطالب الرئيس الديمقراطي، منهياً بذلك طموحاته للرئاسة الأميركية التي كانت مقررة في العام التالي.
عند منتصف الليل، أطلّ جونسون على الأميركيين ملقياً كلمة متلفزة برّر فيها قراره باللجوء إلى الجيش مكرراً في خطابه، سبع مرات، أن الحاكم رومني «غير قادر على استعادة النظام» في ديترويت. وقد أبدى جونسون حرصاً شديداً على أن يراق دم السود على يد الجيش الفدرالي، حتى لو اضطر الأمر الجنود إلى القتال من دون ذخائر.
في الساعات الثلاث التالية التي أعقبت إعلان الرئيس، شهدت ديترويت ارتفاعاً كبيراً في حوادث إطلاق النار والقنص ليسقط المزيد من الضحايا بينهم إطفائي وشرطي.
وبحلول الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، بدأ حوالي ٤٧٠٠ عسكري أميركي من الفرقتين المجوقلتين «٨٢» و«١٠١» بالانتشار في الجانب الشرقي من ديترويت (شرق وودورد)، بينما انتقلت قوات الحرس الوطني إلى الجانب الغربي من المدينة حيث كانت أعمال العنف أكثر حدة وعنفاً.
وقد تمكنت قوات الجيش الفدرالي التي خدمت في فيتنام من استعادة النظام سريعاً في شرق المدينة، فيما استعصى الغرب لمدة يومين إضافيين رغم استخدام الحوامات والدبابات والرشاشات الثقيلة في الرد على مصادر النيران، فأخمدت الانتفاضة بحلول ظهر الخميس ٢٧ تموز، مع بدء انسحاب شرطة ميشيغن بعد استعادة الأمن جزئياً.
شهدت المدينة في الأيام التالي خروقات محدودة واستمر افتعال الحرائق ولكن بوتيرة أقل، فيما هدد المتشددون السود بأن ما حصل «لم يكن سوى البداية» لما قد يحصل لاحقاً في حال لم تتم الاستجابة لمطالب العدل والمساواة.
بدأت سلطات الولاية والبلدية على الفور بتقديم الإعانات الغذائية ومراكز الإيواء للمتضررين، فيما دعا الحاكم رومني سكان المنطقة لأن يكونوا أكثر تفهماً في حال صادفوا «أشخاص غرباء» في مناطق تسوقهم، نتيجة الخراب الهائل الذي طال متاجر ديترويت.
في ٣٠ منه، انسحب الجيش الأميركي من شرق ديترويت، وأعقبته قوات الحرس الوطني التي عادت إلى قواعدها في الأسبوع التالي. فيما أعلن رئيس البلدية عن رفع حظر التجول ابتداء من مطلع آب (أغسطس)، لتبدأ إثر ذلك ورش إزالة الخراب، فيما ازدحمت الشوارع المدمرة بالسيارات والسكان الذين أرادوا معاينة حجم الأضرار والندوب التي خلفتها الأحداث الدامية على مدينتهم، فيما توالت الجهود السياسية في ديترويت ولانسنغ وصولاً إلى واشنطن لإيجاد حلول جذرية للتفرقة العنصرية وتحديد السبل لتجريد الجماعات المتشددة من الذرائع التي تبيح انتهاج العنف لتحقيق أهداف اجتماعية وسياسية.
حصيلة كارثية
استمرت أعمال الشغب، أو الانتفاضة، خمسة أيام من ٢٣ إلى ٢٧ تموز، وأسفرت عن مقتل ٤٣ شخصاً (١٠ من البيض و٣٣ من السود)، وقد قتل ٢٤ رجلاً أسود برصاص الشرطة والحرس الوطني، وستة برصاص أصحاب المتاجر، وشخص واحد بالخطأ من رصاص الجيش، فيما قضى آخرون خنقاً نتيجة الحرائق. أما الضحايا البيض فكانوا شرطياً وإطفائيين وعنصراً من الحرس الوطني قُتل في اشتباك مسلح مع عصابات السود، في حين قتل مدنيون آخرون برصاص القنص أو ضرباً حتى الموت.
أما عدد الجرحى فبلغ رسمياً ١١٨٩ شخصاً (٤٠٧ مدنيين، و٢٨٩ مشتبهاً، و٢١٤ شرطياً، و١٣٤ إطفائياً، و٥٥ من قوات الحرس الوطني في ميشيغن، و٦٧ من شرطة الولاية، و١٥ من شرطة مقاطعة وين، و٨ جنود أميركيين).
وقد تم اعتقال ٧٢٣١ شخصاً معظمهم من السود (٦٥٢٨ بالغاً و٧٠٣ قاصرين أصغرهم عمره أربع سنوات وأكبرهم ٨٢ عاماً)، وقد وجهت لـ٦٤ بالمئة منهم تهم النهب، و١٤ بالمئة تهم خرق حظر التجول، في حين تم اعتقال ٢٥ قناصاً لم تتم محاكمتهم.
وبحسب التقديرات الرسمية، قام بأعمال الشغب حوالي ١٠ آلاف شخص، فيما بلغ عدد القوات الأمنية والعسكرية المتعددة التي انتشرت في المدينة ١٧ ألفاً.
أما على مستوى الأضرار المادية، فكانت الحصيلة فادحة أيضاً، حيث تعرض ٢٥٠٠ متجر إلى النهب والحرق، وتم تشريد ٣٨٨ عائلة، فيما تعرض ٤١٢ مبنى لدمار كامل. وقد قدرت كلفة الخسائر في المباني والممتلكات بين ٥٠ و٧٥ مليون دولار في ذلك الوقت (٣٧٥ و٥٥٠ مليون دولار اليوم)، بينما لحقت بديترويت أضرار لا حصر لها.
رابط الجزء الأول : http://bit.ly/2ual3XE
رابط الجزء الثاني : http://bit.ly/2tjC6XW
رابط الجزء الرابع : http://bit.ly/2uJ890F
Leave a Reply