الإنحدار إلى الهاوية
إعداد: أحمد السبلاني
انقضت أيام الفوضى الخمسة، واستفاقت ديترويت في اليوم السادس (٢٨ تموز/يوليو ١٩٦٧) على عودة جزئية للأمن، وسط مشاعر الذهول والصدمة من هول الدمار الهائل والخسائر الفادحة التي منيت بها المدينة خلال الاضطرابات الداخلية الأسوأ، التي شهدتها الولايات المتحدة منذ الحرب الأهلية الأميركية أواسط القرن التاسع عشر.
كذلك، خيّمت مشاعر التوتر والخوف على ديترويت وضواحيها في الأيام التالية للأحداث، خشية تجدد أعمال العنف إثر انسحاب قوات الجيش الأميركي والحرس الوطني من المدينة، وتلويح المتشددين السود بإشعال انتفاضة جديدة أكثر عنفاً في أية لحظة، بحال لم تتم تلبية تطلعات الأفارقة الأميركيين إلى إنهاء التمييز العنصري ضدهم.
لم تكن أعمال العنف والشغب في ديترويت معزولة، فقد وقعت أحداث مماثلة خلال صيف ١٩٦٧ في ١٢٨ مدينة أميركية أخرى، بينها فلنت وساغينو وبونتياك في ميشيغن، ولكن ديترويت واجهت أسوأها على الإطلاق، وكما كان خطر اندلاع انتفاضة أخرى قائماً في ديترويت، كذلك كانت جميع المدن الأميركية –التي تحتضن أقليات من السود– تنام وتفيق على هذا الهاجس، فيما ظلّ الجيش الأميركي على أهبة الاستعداد لتطويق أية أعمال عنف جديدة قد تندلع في البلاد.
كان لا بد من التحرك سريعاً لإيجاد الحلول المناسبة لتنفيس الاحتقان المزمن وامتصاص مشاعر الاضطهاد والغضب المتراكم منذ أن جُرّ الأفارقة عبيداً إلى بلاد العم سام. بات على الولايات المتحدة أن تعترف بتاريخها العنصري وتواجهه.
مقبرة السياسيين
حاول رئيس البلدية فيل كافانو لملمة جراح المدينة وأشلاء طموحاته السياسية، فسارع إلى عقد اجتماعات مع قيادات محلية من رؤساء النقابات والشركات الكبرى والحقوقيين الأفارقة الأميركيين، لإطلاق مساعي إعادة الإعمار. كما بادر إلى القيام بجولة ميدانية تفقد خلالها الأضرار على الشارع ١٢ حيث وقف مصدوماً وسط الركام قائلاً «اليوم نقف وسط رماد آمالنا.. وكنا نأمل في ما نأمل بأن يكون ما قمنا به كافياً لتفادي الشغب، ولكنه لم يكن كذلك».
الضرر كان أكبر من أن يمحى، وسرعان ما أدرك كافانو أن نجمه السياسي قد أفل وتحولت طموحاته الرئاسية إلى هباء منثور، فقرر مغادرة منصبه وعدم الترشح لولاية جديدة على رأس البلدية التي انتقلت لديمقراطي آخر هو شريف مقاطعة وين رومان غريبز. حرص كافانو خلال الفترة الأخيرة من حكمه على إصدار مراسيم تحظر التمييز العنصري في العمل والإسكان والتجارة، مشرعاً أبواب البلدية أمام السود، فيما ازداد نزوح السكان البيض نحو الضواحي بوتيرة أسرع في ظل تصاعد معدلات العنف والجريمة في المدينة.
كذلك، أطاحت انتفاضة تموز ١٩٦٧، بطموحات حاكم ميشيغن جورج رومني (والد المرشح الرئاسي لاحقاً ميت رومني) بعد أن كان أبرز المرشحين الجمهوريين المحتملين للإطاحة بالرئيس الديمقراطي ليندون جونسون في انتخابات ١٩٦٨، ولكنه انسحب من السباق لاحقاً بعد تدني حظوظه في استطلاعات الرأي، أمام ريتشارد نيكسون الذي انتخب رئيساً للولايات المتحدة مطلع العام ١٩٦٩.
أما جونسون، فدفع بدوره ثمن الخراب الذي لحق بديترويت وسائر الاضطرابات العرقية التي عمت المدن الأميركية خلال عهده بخسارته معركة إعادة انتخابه عام ١٩٦٨، رغم محاولته إرضاء الناخبين الأميركيين البيض بعدم تبنى استنتاجات «لجنة كيرنر» التي قام بتعيينها قبل أن تخمد نيران انتفاضة ديترويت، للتحقيق بأسباب اندلاع أعمال العنف في أرجاء البلاد وإصدار توصيات بحلول مناسبة.
تقرير كيرنر: عنصرية البيض
بعد سبعة أشهر من تشكيلها، أصدرت اللجنة القومية الاستشارية، التي ضمت ١١ عضواً برئاسة حاكم ولاية إلينوي أوتو كيرنر، تقريرها النهائي في ٢٩ شباط (فبراير) ١٩٦٨، ملقية اللوم على «العنصرية البيضاء» لكونها السبب في اندلاع أعمال العنف الأخيرة، وليس تآمر المجموعات المتشددة من الأفارقة الأميركيين.
وقال التقرير «إن أمتنا تنحو إلى الانقسام إلى مجتمعين منفصلين، أحدهما أبيض والآخر أسود. منفصلين وغير متساويين. إن التمييز العنصري والفقر صنعا غيتو عنصرياً مهملاً مجتمعياً لا يعلم عنه الأميركيون البيض شيئاً ولا يشعرون به».
وطالبت «لجنة كيرنر» بتقديم المزيد من المساعدات الحكومية لمجتمعات السود للحيلولة دون المزيد من أعمال العنف العنصرية، مشيرة إلى أنه في حالة عدم التوصل إلى علاجات جذرية ناجحة في الحال لمكافحة الفقر والفصل العنصري والتمييز، فسيكون هناك مزيد من الاضطرابات الداخلية التي ستؤدي حتماً إلى تدمير القيم الديمقراطية الأساسية.
وقد أورد التقرير وقوع أعمال شغب في 150 مدينة أميركية في الفترة ما بين 1965 و1968. وبعد شهر واحد من صدوره، تم اغتيال قائد حركة الحقوق المدنية مارتن لوثر كينغ في مدينة ممفيس يوم الرابع من نيسان (أبريل) لتندلع على أثر ذلك موجة أعمال عنف واسعة استدعت تدخل الحرس الوطني مجدداً فيما كانت البلاد تستعد لخوض انتخابات الرئاسة الأميركية في لحظة حرجة من تاريخها.
ففي ليلة اغتيال كينغ، انفجرت أعمال العنف في كثير من مدن البلاد، واشتعلت النيران في شيكاغو وبوسطن وبالتيمور وواشنطن ونيويورك، فيما ظلت ديترويت هادئة نسبياً، بعد إنزال ٦٠ ألف عنصر من الحرس الوطني في شيكاغو، فيما ناشدت كوريتا سكوت كينغ، زوجة الزعيم المغدور، ببيان، الجميع بالتوقف عن العنف والعمل تحقيقاً لأحلام كينغ.
وعلى الرغم من أن جونسون كان قد وقّع قانون الحقوق المدنية (١٩٦٤) الذي يحظر التمييز العنصري في المرافق العامة والتجارة وأماكن العمل والإسكان، كما أقرّ في العام التالي قانون حق التصويت (١٩٦٥) الذي سمح لملايين الأفارقة الأميركيين بالانتخاب لأول مرة في ولايات الجنوب، إلا أن الرئيس الليبرالي آثر النأي بنفسه عن «تقرير كيرنر» في العلن خلال الأشهر التي سبقت الانتخابات، حيث تلقى هزيمة سريعة أمام نيكسون على وقع اضطرابات الداخل والخسائر الأميركية الفادحة في حرب فيتنام التي قام جونسون بتسعيرها.
عاصمة الجريمة والبطالة .. والهيروين
إذا كان يحسب للرئيس جونسون تطبيق الوعود التي أطلقها الرئيس السابق جون أف. كينيدي قبل اغتياله بحماية الحقوق المدنية للأفارقة الأميركيين، فإنه أيضاً أطلق ما سمي بـ«الحرب على الجريمة» سنة ١٩٦٥، دافعاً دوائر الشرطة في المدن الكبرى إلى قلب غيتوات السود تحت عنوان مكافحة معدلات الجريمة المتصاعدة. وقد أدت تلك السياسة المدفوعة من قبل الحكومة الفدرالية إلى تنامي مشاعر الغضب والاضطهاد في أوساط السود، وبالتالي اندلاع أعمال العنف والتمرد على القانون والنظام بين ١٩٦٥ و١٩٦٨، وهو ما ساهم لاحقاً بتحوّل غيتوات السود في ديترويت وغيرها من المدن الكبرى، إلى بؤر للجريمة والعصابات بعد انكفاء الشرطة عن حماية الأمن فيها، وبدء انتشار آفة تعاطي الهيروين.
جاء انتخاب شريف مقاطعة وين رومان غريبز رئيساً لبلدية ديترويت عام ١٩٦٩، خلفاً لكافانو، تحت شعار إعادة الأمن إلى المدينة بعد الفلتان الذي أصابها في أعقاب انتفاضة ١٩٦٧، في ظل صعود معدلات الجريمة واستمرار ظاهرة الحرائق المفتعلة فيما تحوّل المتشددون السود إلى الجريمة المنظمة، مع تخلي الشرطة عن حفظ الأمن في أحيائهم تفادياً لحدوث أي احتكاك مع السكان قد يؤدي إلى وقوع أعمال شغب جديدة.
حاول غريبز الذي فاز بالانتخابات على مرشح أسود بفارق سبعة آلاف صوت فقط، الاستجابة إلى مطالب السكان البيض الملحة بضرورة استعادة الأمن وضبط الجريمة في الأحياء، فقام باستحداث شعبة أمنية خاصة باسم STRESS وهي عبارة عن دوريات متخفية من عناصر الشرطة البيض والسود الذين كانوا يجوبون الأحياء للإيقاع بالمجرمين ومكافحة أعمال السطو المسلح وإعادة الأمن إلى الشوارع.
ورغم التحسن الأمني الطفيف الذي عاشته ديترويت بفضل جهود الشرطة خلال تلك الفترة، إلا أن الأمور سرعان ما أخذت منحىً عكسياً أواخر عهد غريبز مع تجدد الاتهامات للشرطة بالعنصرية على خلفية مقتل العديد من الشبان السود على أيدي عناصر «سترس» خلال العامين ١٩٧١ و١٩٧٢.
وإذا كانت بلدية ديترويت في ذلك الوقت قد أنهت الفصل العنصري في الإسكان والمدارس العامة والخدمات، وأتيحت للسود فرص العمل في القطاع الخاص ودوائر المدينة بما فيها الشرطة والإطفاء، إلا أن مشاعر الغضب عادت لتتأجج في أوساط الأفارقة الأميركيين احتجاجاً على تنامي البطالة وبطش الشرطة وتحديداً عبر ممارسات «سترس» فاضطر رئيس البلدية إلى تعليق نشاط تلك الشعبة نزولاً عند مطالب الحقوقيين خشية اندلاع أعمال شغب جديدة، لتخلو الساحة مجدداً أمام المجرمين وعصابات المخدرات التي راح يشتد عودها في الأحياء التي يقطنها السود الذين توسعت رقعة انتشارهم مطلع السبعينات لتشمل معظم مساحة ديترويت باستثناء الأحياء الواقعة إلى الغرب من شارع غرينفيلد، وأحياء شمال شرقي المدينة التي يقطنها المهاجرون الجدد بكثافة.
ولقد شهدت ديترويت في أوائل السبعينات تفاقم أزمة البطالة، مع تسارع وتيرة فقدان الوظائف في ظل تواصل إغلاق المصانع ونزوح الشركات نحو الضواحي تحت وطأة التغيرات الديموغرافية، إلى جانب ازدياد معدلات السطو والسرقة والاغتصاب، ناهيك عن ولادة جريمة خطف السيارات، حتى أضحت المتاجر التي قررت البقاء في ديترويت تعلن عن توفر مواقف مضاءة ومحمية بعناصر الأمن لطمأنة الزبائن!
وقد شهدت المدينة خلال تلك الفترة انطلاق ما عرف بـ«ليلة الشياطين» التي حازت على تغطية وطنية، بإضرام النيران في المباني المهجورة في ديترويت خلال عطلة عيد «الهالوين»، وذلك في تقليد سنوي استمر لعقود لاحقة مخلفاً المزيد من الخراب والدمار في مختلف أنحاء المدينة.
غير أن أخطر ما واجهته ديترويت بداية السبعينات كان سرعة انتشار آفة تعاطي الهيروين التي فاقمت الوضع الأمني وانعكست ارتفاعاً كبيراً في جرائم القتل والسطو المسلح لاسيما في شرق المدينة، حيث تم توثيق إدمان أكثر من ١٥ ألف شخص على الهيروين في محيط شارع ماك وحده خلال عام واحد، كما انتشر الإدمان على هذا المخدر الذي كانت نيويورك مصدرَ توزيعه وطنياً، في محيط الشارع ١٢ على الجانب الغربي من ديترويت، وهو الحي الذي كان مهداً لانتفاضة ١٩٦٧، قبل أن تسوى مبانيه التجارية أرضاً ويُغيّر اسمه عام ١٩٧٦ إلى «روزا باركس بوليفارد»، تكريماً لناشطة الحقوق المدنية التي اشتهرت بعد رفضها التخلي عن مقعدها في باص عمومي لشخص أبيض عام ١٩٥٥، فأطلق ذلك حركة مقاطعة الحافلات العامة في مونتغمري (ألاباما)، والتي شكلت شرارة حركة الحقوق المدنية ضد نظام الفصل العنصري الذي كان سائداً في ذلك الوقت.
في العام ١٩٧٤، أضافت ديترويت لقباً جديداً إلى جانب عاصمة البطالة، والجريمة، وخطف السيارات، وإدمان الهيروين، وذلك إثر سقوط ٧١٤ قتيلاً في حوادث إطلاق النار خلال ذلك العام، لتكتسب المدينة لقب «عاصمة القتل» في العالم، بالتزامن مع انتخاب أول رئيس بلدية أسود لقيادة المدينة (كولمان يونغ)، وذلك بعد قرار غريبز عدم الترشح لولاية جديدة، فيما كانت ديترويت قد أصبحت تضم أغلبية من السكان الأفارقة الأميركيين لأول مرة في تاريخها، مع استمرار نزوح البيض الكثيف نحو الضواحي، لينخفض عدد سكان ديترويت إلى ما دون ١.٤ مليون نسمة أواسط السبعينات، مقارنة بقرابة مليوني نسمة منتصف الأربعينات.
حقبة كولمان يونغ
تولى كولمان يونغ، رئاسة بلدية ديترويت مطلع العام ١٩٧٤ بعد أن كان سناتوراً في مجلس ميشيغن التشريعي، وقد سارع فور توليه منصبه إلى تطبيق مجموعة من السياسات التي ساهمت في تثبيت أقدامه في الحكم لمدة عشرين سنة، معتمداً خطاب «الهدنة» بين «نحن» (السود) و«هم» (البيض)، مما جعله يحظى بشعبية جارفة بين الأفارقة الأميركيين في ظل دعم مطلق من الحزب الديمقراطي والشركات الكبرى التي بقيت في المدينة. فتسيّد يونغ ديترويت لمدة عشرين سنة، انتُخب خلالها خمس مرات متتالية من دون منافسة تذكر، حتى تقاعده عام ١٩٩٤.
خلال حقبة كولمان يونغ، وعلى الرغم من المشاريع الإنمائية التي شهدتها المدينة، مثل تشييد ملعب «جو لويس أرينا» وإتمام مجمع «رينيسانس سنتر» وبناء مصانع جديدة للسيارات وتوسعة المطار البلدي وتنمية الداونتاون وتطوير النقل العام، واصلت أحياء ديترويت انحدارها على كافة الصعد –سكانياً واجتماعياً واقتصادياً وأمنياً– حيث تضاعفت وتيرة مغادرة السكان البيض للمدينة فيما تركت الأحياء الفقيرة لقمة سائغة أمام العصابات وموزعي المخدرات بعد قرار البلدية بإلغاء وحدات «سترس» وتحييد الشرطة عن حفظ الأمن فيها، على الرغم من أن نصف عديد الشرطة كان قد أصبح من السود مع نهاية ولاية يونغ الأولى التي شهدت أيضاً توظيفاً كثيفاً للأفارقة الأميركيين الذين سرعان ما أمسكوا بكافة مفاصل البلدية لعقود قادمة.
ورغم ازدهار الطبقة الوسطى وظهور طبقة الأثرياء بين السود في ديترويت خلال السبعينات، استمرت معدلات الفقر بالتصاعد، وبحلول 1982 كان ثلث سكان ديترويت يعيشون على الإعانات الحكومية (ولفير) التي أقرها الرئيس ليندون جونسون في الستينات، كما بلغت مستويات البطالة ٢٢ بالمئة بين الشباب السود. ولكن من جهة أخرى، شكلت موارد المخدرات رافداً أساسياً لاقتصاد المدينة التي سرعان ما تحولت إلى قبلة لمتعاطي المخدرات والباحثين عن المتعة والإثارة.
وقد ظللت عهد كولمان يونغ شبهات الفساد والتآمر مع شبكات وعصابات المخدرات التي تمتعت تحت حكمه بسطوة كاملة في المدينة، طوال فترة السبعينات والثمانينات لاسيما مع ظهور مخدر «الكراك» (الكوكايين المصنّع) الذي عصف بالبلاد وانتشر تعاطيه على نطاق واسع، فكان سكان الضواحي يقصدون ديترويت لشراء المخدرات المتوفرة بمختلف أنواعها، وهو ما شكل مصدر ثروة سريعة للأفارقة الأميركيين، ولكنه أدى أيضاً إلى نشوب صراعات دامية بين العصابات بهدف السيطرة على الأحياء وتجارة المخدرات فيها، مما انعكس ارتفاعاً في وتيرة العنف وإحراجاً لقيادتها.
أخذت آفة المخدرات أواخر السبعينات منعطفاً أكثر تدميراً لمجتمع السود في ديترويت، مع لجوء شبكات المخدرات إلى الاعتماد على الصبيان والمراهقين لتوزيع الممنوعات على نواصي الشوارع والتقاطعات، لتقف الشرطة مكتوفة الأيدي بداعي أن الموزعين هم تحت السن القانوني ولا يمكن ملاحقتهم قضائياً.
تدمير جيل
جاء صعود نجم عصابة «يونغ بويز إنكوربوريتد» Y.B.I في ديترويت واكتسابها شهرة وطنية مطلع الثمانينات، كمجموعة من المراهقين الوسيمين الذين يملكون الكثير من المال عبر تجارة المخدرات على الشارع، بمثابة تحول دراماتيكي في ثقافة الأجيال الناشئة من السود، ليس في ديترويت وحسب، بل في عموم الولايات المتحدة الأميركية.
فقد شجعت الصورة البراقة للـ«يونغ بويز» المراهقين السود على الانخراط في هذه التجارة للحصول على أموال طائلة مقارنة بما يجنيه الآباء العاملون، وهو ما أفقدهم الاهتمام بالتعليم المدرسي للحصول على وظائف في المستقبل، طالما أن جني المال لا يتطلب أكثر من الوقوف بضعة دقائق على أحد الأرصفة وبيع بضع غرامات من «الكراك».
وقد ضجت وسائل الإعلام خلال الثمانينات بأخبار المراهقين السود الذين يتوجهون إلى مدارس ديترويت العامة، بسيارات رياضية فارهة اشتروها لتوهم نقداً، وأحذية ثمينة ومجوهرات مرصعة بالألماس، لتبدأ فروع «يونغ بويز» ومشتقاتها تنبت في أنحاء البلاد، فيما أخذ مستوى مدارس ديترويت العامة ينحدر بسرعة متزايدة، أكاديمياً وأمنياً، حيث بسطت عصابات المراهقين تدريجياً سيطرتها على المدارس التي كانت تعاني أصلاً من شح التمويل في ظل تراجع الإيرادات الضريبية بسبب تراجع عدد سكان المدينة، بالتوازي مع ازدياد عدد الطلاب، وارتفاع وتيرة العنف وسقوط العديد من الضحايا من الطلاب والمدرسين.
كما عانى عشرات آلاف المراهقين السود في ديترويت منذ أواخر الثمانينات، من التفكك الأسري وغياب الرعاية الأبوية مع التضخم السريع في أعداد السجناء الأفارقة الأميركيين، فقد لجأت ولاية ميشيغن إلى بناء ٢٣ سجناً جديداً بين العامين ١٩٨٥ و١٩٩٢ لاستيعاب الأعداد الهائلة من السجناء الجدد.
وبلغت ذروة الاعتقالات عام ١٩٨٨، حين قامت شرطة ديترويت بإلقاء القبض على ٩٦١٨ شخصاً خلال سنة واحدة بتهم المخدرات، وذلك في إطار حملة وطنية أطلقها الرئيس رونالد ريغان باسم «الحرب على المخدرات».
فساد وإفلاس
شهدت ديترويت خلال عهد يونغ نزوح حوالي نصف مليون نسمة من السكان البيض نحو الضواحي، لتبلغ نسبة السود في المدينة بحلول العام ١٩٩٠، حوالي ٧٥ بالمئة من أصل ما يزيد قليلاً عن مليون نسمة. وبحلول عام ١٩٩٣ قرر يونغ التقاعد، وكان سكان المدينة قد بدأوا يتململون من سياساته، فتم في ذلك الخريف انتخاب دنيس آرتشر خلفاً له على الرغم من تبني يونغ لترشيح شارون ماكفيل التي حصلت على أغلبية أصوات الناخبين السود ولكن أصوات البيض رجحت الكفة لصالح آرتشر.
اعتمد رئيس البلدية الجديد، وهو قاض إفريقي أميركي سابق في محكمة ميشيغن العليا، نهجاً تصالحياً مع الضواحي، محاولاً ترميم العلاقات بين البيض والسود وجذب الاستثمارات مجدداً إلى المدينة، فشهد عهده الذي امتد حتى مطلع الألفية الثانية تحسناً نسبياً في وسط ديترويت، فتم تشييد ملاعب رياضية جديدة (فورد فيلد وكوميريكا بارك)، ولكنه واجه معارضة متنامية من أنصار سلفه خلال ولايته الثانية، مما دفعه لعدم الترشح لفترة ثالثة عام ٢٠٠١، لينتخب مكانه كوامي كيلباتريك كأصغر رئيس بلدية في تاريخ ديترويت في سن ٣١ عاماً.
لم يتمكن رؤساء البلدية المتعاقبين من تغيير مسار الانحدار الذي سلكته ديترويت منذ أحداث ١٩٦٧، فاستمر نزوح السكان البيض وتبعهم المهاجرون الآسيويون والعرب وغيرهم، وتفشى الخوف والخراب، وانتشرت أوكار التعاطي وبؤر الجريمة، كما تراجعت خدمات البلدية وتراكمت الديون وتفاقم العجز وارتفعت البطالة مع مغادرة المتاجر الكبرى وإغلاق مئات المصانع في المدينة، فيما أضاف عهد كيلباتريك مطلع الألفية الجديدة صفة «الفساد الإداري» إلى المدينة التي بلغت سمعتها الحضيض على ضوء فضائح مختلف دوائر البلدية إلى جانب هدر المال العام من قبل كيلباتريك نفسه للإنفاق على ملذاته الجنسية والترفيهية الخاصة، حتى تم اختياره في العام ٢٠٠٥ كأسوأ رئيس بلدية في الولايات المتحدة من قبل مجلة «تايم» الأميركية. ولكن رغم كل ذلك أعيد انتخاب كيلباتريك في العام نفسه لولاية جديدة، مخيباً بذلك توقعات وسائل الإعلام التي تنبأت بانتهاء مسيرته السياسية مبكراً بسبب تراجع شعبيته تحت وطأة الفضائح التي لاحقت إدارته لاسيما عقب حلوله ثانياً في السباق التمهيدي خلف منافسه فريمان هندريكس.
في الواقع، لم يتمكن كيلباتريك من إنهاء ولايته الثانية، حيث اضطر إلى الاستقالة من منصبه في أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٨، بعد بدء التحقيقات معه بتهمة تضليل العدالة والكذب تحت القسم بشأن علاقته الغرامية مع كبيرة موظفي مكتبه واستضافة حفلات ماجنة في القصر البلدي (مانوغيان)، ليتم سجنه لاحقاً في العام ٢٠١٣ بتهم الفساد وتلقي رشاوى، وهو يقبع حالياً في سجن فدرالي.
استمرت المدينة في انحدارها مع تفاقم العجز المالي وصولاً إلى إشهار الإفلاس في عهد دايف بينغ الذي انتخب لتولي قيادة ديترويت عام ٢٠٠٩ خلفاً لرئيس البلدية المؤقت كينيث كوكرل، قبل أن تنتزع معظم صلاحياته من قبل مدير الطوارئ المالية كفين أور، الذي عينه حاكم ميشيغن الجمهوري ريك سنايدر، لمعالجة أزمة الديون المتفاقمة عام ٢٠١٣.
وفي كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٤، أعلنت حكومة ميشيغن عن خروج ديترويت من الإفلاس في إطار تسوية قضائية تخلصت بموجبها المدينة من ديون ناهزت سبعة مليارات دولار، وأطلق معها رئيس البلدية الجديد مايك داغن مسيرة الألف الميل لإعادة المدينة إلى مسار النهوض مجدداً.
قدر ديترويت
ومن تاريخ ديترويت يحكى أيضاً، أنه بعد أكثر من قرن على تأسيسها، أتى حريق هائل على كامل
المستوطنة الصغيرة يوم ١١ حزيران (يونيو) ١٨٠٥، فدبّ الحزن واليأس في نفوس السكان الذين كا
ن يقدر عددهم بحوالي ١٥٠٠ نسمة، وقرروا الرحيل عن المكان إلى الأبد بعد أن تحول إلى كومة رماد كبيرة، غير أن راعي كنيسة المدينة، الأب غابريال ريشارد، ألقى كلمة مؤثرة بالأهالي المنكوبين أقنعهم فيها بإعادة إعمار ما تهدم، وخط شعاراً جديداً للمدينة مؤلفاً من عبارتين باللغة اللاتينية Speramus meliora; resurget cineribus: «نأمل بما هو أفضل، سوف تنهض من الرماد».
رابط الجزء الأول : http://bit.ly/2ual3XE
رابط الجزء الثاني : http://bit.ly/2tjC6XW
رابط الجزء الثالث : http://bit.ly/2gT04U2
Leave a Reply