حتى هذه اللحظات لم يستوعب “تيار المستقبل” خروج زعيمه سعد الحريري من سدة رئاسة الحكومة، حتى أن الأخير كان يأمل أو ينتظر اعتذار الرئيس المكلف نجيب ميقاتي عن مهمة تأليف الحكومة الجديدة بعد “يوم الغضب” الذي نفذه أنصار “تيار المستقبل” في كافة المناطق التي يتواجدون فيها، وخصوصا في مدينة طرابلس في محاولة حثيثة لإسقاط ميقاتي في مهده وإذلاله سياسياً، حتى لا يجرؤ من بعده أحد على الترشح لمنصب الرئاسة الثالثة.
لكن الوقائع أتت عكسية تماما، إذ تبين أن “يوم الغضب” تحول الى استفتاء شعبي صامت ربحه ميقاتي في عاصمة الشمال التي أكدت أن الأغلبية فيها لم تعد للحريري، وأن تحالف ميقاتي-الصفدي إضافة الى الرئيس عمر كرامي هو الطاغي في الشارع الطرابلسي.
في موازاة ذلك فقد أطلق تيار المستقبل “العلماني” العنان لأبواقه الإعلامية والصحفية والنيابية التي عملت بشكل واضح وفاضح على التحريض المذهبي والطائفي. وفجأة اكتشف المستقبليون الميثاق الوطني والصيغة اللبنانية التي انقلبت عليها قوى “8 آذار” متناسين أن حكومة فؤاد السنيورة ظلت زهاء السنتين بدون تمثيل شيعي وسط احتجاجات شعبية في طول وعرض البلاد من دون أن “يرف لهم جفن”، فعاثوا في الحكومة فساداً ونهباً حتى وصلت حصيلة مسروقاتهم 11 مليارا، وإلا ماذا يعني أن يضع الحريري مطلب إمرار الموازنة ونسيان موضوع الـ11 مليار دولار الضائعة من الخزينة بندا في ورقة التسوية؟
ولا تعني مخالفة حكومة السنيورة لقواعد الدستور وبديهيات الميثاق الوطني جواز المخالفة نفسها من الطرف الآخر عبر استبعاد الطائفة السنية من الحكم، علما بأن المقارنة بين الواقعين الشيعي والسني في لبنان تفضي الى اختلاف في النتائج يسقط مزاعم “تيار المستقبل” والحريري نفسه عن مقولة الاغتيال السياسي والانقلاب على الميثاق الوطني.
فليس خافياً على احد بأن ثنائي “حزب الله” وحركة “أمل” لا منافس له في الطائفة الشيعية على الإطلاق، وبالتالي لا مناص من الاعتراف بهما كممثلين رسميين أوحدين للطائفة الشيعية، حتى لو تم انجاز قانون انتخابي نسبي، فلا يمكن الخروج بنتيجة مغايرة للواقع الحالي، وهذا ما كانت قوى “14 آذار” تعتبره مثلبة بحق الطائفة الشيعية “التي يحتكر قرارها حزب الله وحركة أمل” مع كل الدعوات التي كانت تطلق من هنا وهناك لكسر الثنائية الشيعية أو حتى خرقها. وجرت عدة محاولات من أجل ذلك باءت كلها بالفشل الذريع لتكون الحصيلة النهائية لثورة الأرز انضمام مفتي صور وجبل عامل السابق السيد علي الأمين الى صفوفها برتبة أستاذ محاضر في أكاديمية سمير جعجع للعلوم الفقهية والسياسية.
من هنا يأخذ الكلام عن الميثاق الوطني قوته من الواقع عندما تستحضر تجربة حكومة فؤاد السنيورة الأولى بين عامي 2006 و2008.
على الصعيد السني، فلا شك بأن سعد الحريري هو الممثل الأكبر، ولكن ليس الأوحد للطائفة السنية. فحتى من انتصر عليهم في الانتخابات النيابية الأخيرة يملكون حيثية شعبية لا يستهان بها، بدءاً من الرئيس عمر كرامي في طرابلس الى الوزير عبدالرحيم مراد في البقاع الغربي، الى أسامة سعد في صيدا مرورا بالعاصمة بيروت التي تزخر بقوى سياسية وعائلية بعيدة كل البعد عن تيار الحريري، خاصة بعد اغتيال الأب وضياع البوصلة. واذا ما طبقت النسبية في الانتخابات فان النتيجة ستكون مذهلة للحريري الذي لن يكون بمقدوره الحصول على أكثر من 10 نواب من السنة في المجلس النيابي من أصل 27 نائبا.
وفي الانتخابات النيابية الأخيرة لم يكن بمقدور الحريري الفوز بمقاعده في مدينة طرابلس لولا تحالفه مع الرئيس نجيب ميقاتي والوزير محمد الصفدي لأن سيناريو تحالف الأخيرين مع الرئيس عمر كرامي كان سينزل بالحريرية هزيمة نكراء في عاصمة الشمال.
أما القول بأن “14 آذار” رضيت بما ارتضاه الشيعة رئيساً لمجلس النواب فهو قول ساقط أيضا، لأن انتخاب نبيه بري رئيسا لمجلس النواب عام 2005 تم من ضمن التحالف الرباعي الذي أنتج الأكثرية النيابية، وللتذكير فقط فإن السيد حسن نصرالله أعلن حينها في خطاب بنت جبيل بحضور النائب وليد جنبلاط عشية الانتخابات بأن التحالف سياسي وليس انتخابيا، وفي العام 2009 كان تأييد المستقبل للرئيس بري تحصيل حاصل لأن النائب وليد جنبلاط كان قد أعلن تأييده للرئيس بري. ولكن السؤال الأهم لماذا لم تقبل قوى “14 آذار” بالعماد ميشال عون رئيسا للجمهورية مع انه الممثل المسيحي الأكبر في كل لبنان وحاز في انتخابات عام 2005 على 70 بالمئة من الأصوات المسيحية؟
ولماذا فرض “تيار المستقبل” وجهة نظره على العماد عون ووضع “فيتو” بوجه وصوله الى سدة الرئاسة الأولى، ثم تجده اليوم يتبجح بالصيغة اللبنانية والميثاق الوطني؟
وهنا لا بد من طرح بعض التساؤلات الاستيضاحية:
– هل كان تولي الرئيس رفيق الحريري رئاسة الحكومة عام 1992 أمرا غير ميثاقي ومخالف للصيغة اللبنانية في الوقت الذي لم يكن يجد فيه نائبا واحدا في البرلمان اللبناني يسمه لشخصه ولسيرته الذاتية؟
– هل كان الشيعة طيلة الحقبة الممتدة بين عامي 1992 و2004 غير ممثلين ومهمشين لأن “حزب الله” لم يشارك بأي حكومة ولم يمنح أي حكومة الثقة؟
– ألا تشكل حال الرئيس نجيب ميقاتي وسعد الحريري اليوم حال حركة “أمل” و”حزب الله” قبل مرحلة “الوحدة السياسية”؟
فالحديث عن انقلاب على الميثاق الوطني لا يستقيم هنا وهو مردود الى أصحابه، ومن يصر عليه لا يبغي سوى النفخ المذهبي والتأجيج الطائفي واستحضار الخطاب العنصري والفئوي كخطباء “يوم الغضب” في طرابلس، من أمثال محمد سلام وخالد الضاهر ومحمد كبارة ومصطفى علوش.
“الانقلاب السياسي” هو التعبير الأصح والأدق لما شهده لبنان منذ 1٢ كانون الثاني الساعة الخامسة بعد الظهر بتوقيت بيروت أثناء لقاء الرئيس سعد الحريري بالرئيس باراك أوباما. وهو استثمار بمفعول رجعي لانتصار المقاومة على اسرائيل في حرب تموز 2006، ما أدى الى انقلاب في موازين القوى بين المقاومة واسرائيل بالتزامن مع بداية التعثر الأميركي في العراق وأفغانستان وصعود إيران كقوة نووية مهدت الطريق لبلورة الفشل الأميركي وترجمته بشكل أولي في صناديق الاقتراع الأميركية، ما أسهم الى جانب المشكلة الاقتصادية في اسقاط مرشح الحزب الجمهوري بالضربة القاضية أمام الرئيس باراك أوباما الذي ورث إخفاقات جمهورية ضيقت هامش حركته إيرانياً وعراقياً وبالتالي لبنانياً.
ولعل أسطع صورة لهذا التحول الكبير في موازين القوى هي صورة لقاء الحريري بالرئيس أوباما التي هزتها استقالة المعارضة السابقة من الحكومة والتي أتت على شكل إقالة للحريري وإعفائه من مهامه بعد رفضه الانصياع لمطلب عودته الى بيروت، في سابقة تاريخية خرج معها الحريري من لقاء رئيس أقوى دولة في العالم رئيساً سابقاً مع وقف التكليف.
ولكنه خرج ولم يعد!
Leave a Reply