توحي صفقة التبادل «الصغرى» للجثث بين «حزب الله» واسرائيل التي جرت مطلع الاسبوع الماضي وسبقها تكتم شديد من الجانبين ان «امراً ما» اكبر من هذه العملية المبنية على «مشتركات انسانية» يجري الاعداد له على صعيد المقايضات الكبرى التي قد تشهدها منطقة الشرق الاوسط بين اطراف النزاع الاقليمي والدولي، والتي لن تكون عملية تبادل للاسرى اوسع واهم، سوى بند من بنودها التي تتعدى حل مشكلة الاسرى الاسرائيليين واللبنانيين المتعثرة عند عقدة كشف مصير الطيار الاسرائيلي رون آراد الذي اختفى في لبنان بعد اسقاط طائرته في العام 1986.ويمكن للمراقب للصورة البانورامية للتحركات السياسية التي تشهدها المنطقة ان ينطلق من نقطة «الزيارة التاريخية» التي قام بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الى العاصمة الايرانية للمشاركة في مؤتمر الدول المطلة على بحر قزوين رغم «الانزعاج» الاميركي من الزيارة ومحاولة تفخيخها بـ«مؤامرة» لاغتيال الزعيم الروسي، لم يقف عندها «لاعب الكاراتيه» وعميل الـ كاي جي. بي. السابق إلا للاعلان عن المضي بالزيارة وترك الأعمار ليد الله!. هذه الزيارة سبقتها مواقف روسية محذرة من مغبة توجيه ضربة عسكرية الى طهران او حتى من تشديد العقوبات الاقتصادية التي ظلت الادارة الفرنسية الساركوزية الجديدة تغرد فيها خارج اجماع السرب الاوروبي، وكان وفد وزراء خارجية الترويكا الفرنسية-الإيطالية-الإسبانية يستعد للقيام بزيارة لبنانية ينظر اليها باهتمام كبير ويعول على نتائجها في رسم مسار الموقف الاوروبي الجامع بعد الوقوف على المخاطر التي تتهدد قوات هذه البلاد التي تشكل العمود الفقري لقوات اليونيفيل المعززة في الجنوب اللبناني بموجب القرار الدولي 1701 الذي انهى الحرب العدوانية الاسرائيلية على لبنان «مؤقتاً» اذ انهى «الاعمال العدوانية» على جانبي الحدود ولكنه بقي دون قرار لوقف دائم لاطلاق النار.في اسرائيل كان تسليط الاضواء الاعلامية يجري على الاجزاء التي لم تشملها صفقة تبادل الجثث ووقف رئيس الحكومة المحاصر بقضايا التقصير في حرب تموز وقضايا فساد مالي يهدد احدها او الآخر او الاثنان معاً حياته السياسية بمصير سياسي، اشبه بالمصير الذي ناله معلمه مناحيم بيغن، الذي انتهى مكتئباً ومعتكفاً بعد الغزو الاسرائيلي للبنان عام 1982 باشهر قليلة.. وقف محاولاً تبرير «الاثمان المؤلمة» التي يتوجب على اسرائيل دفعها انتظاراً لـ«الجائزة الكبرى» بكشف مصير الطيار المفقود التي لا تزال الطريق اليها والى عودة الجنود الاسرى الآخرين «شائكة وطويلة».في اسرائيل ايضاً، كان الحديث السياسي والاعلامي عن «جهود صادقة» بذلها الامين العام «لحزب الله» السيد حسن نصرالله لمعرفة مصير رون آراد ووضعها بين يدي الوسيط الدولي الذي نقلها الى القيادة الاسرائيلية، بمثابة تسويغ مسبق لاثمان مؤلمة قادمة سوف يتوجب على اسرائيل دفعها لقاء طي هذا الملف الذي أرق عدة حكومات اسرائيلية منذ ما تطلق عليه اسرائيل اسم «حرب لبنان الاولى» (في العام 1982) وهي الحرب الوحيدة التي «تعترف» اسرائيل بمفاعيلها على سياستها اللبنانية التي ادت، فيما ادت، الى اندحار قواتها من الاراضي اللبنانية المحتلة في ربيع العام 2000 بفعل ضربات المقاومة، وانهت به طموحاتها «السياسية» في لبنان مقصرة تلك السياسة على رؤية امنية صرفة تشمل قطاع الحدود المشتركة جنوبي نهر الليطاني والذي تشرف عليه حالياً القوات الدولية وقوات الجيش اللبناني.لم يكن مصادفة، على الارجح، ان تتزامن «الصفقة الصامتة» الاخيرة بين اسرائيل وحزب الله مع «الزيارة التاريخية» للزعيم الروسي بوتين الى العاصمة الايرانية، لكأن القيادة الروسية التي يؤرقها مشروع الدرع الصاروخي الاميركي في آسيا الوسطى ارادت ابلاغ الادارة الاميركية رسالة تحمل معنيين متوازيين: احدهما التلويح باقامة حلف اقليمي مناهض للحلف الاميركي في المنطقة ليس فقط من خلال تعاون عسكري و«نووي تقني» مع ايران وسوريا (عبر قاعدة طرطوس البحرية على الساحل السوري). بل من خلال حلف اقتصادي يقوم على التحكم بالثروة الغازية التي يستحوذ الروس والايرانيون والقطريون على جل احتياطيها العالمي، اذا ما اعتبرنا ان قطر ستكون قادرة على الخروج من اسر الحماية الاميركية التي انطلق احد صواريخها الباتريوت قبل ايام «خطأ» من احدى القواعد الاميركية الاستراتيجية وحلّ «ضيفاً» على مزارع قطري!. اما المعنى الآخر لرسالة الزيارة الروسية للعاصمة الايرانية «المنبوذة» عالمياً فهو قدرة القيادة الروسية على تليين التصلب الايراني وعلى احداث «تخصيب سياسي» للجهود الاميركية والدولية لمنع بروز انياب نووية لطهران والاستعاضة عنها «بالاضراس الروسية» لطحن اليورانيوم الايراني وتحويله الى مصدر للطاقة الكهربائية عبر مشروع مشترك يقام على الاراضي الروسية كما لمح المسؤولون الروس قبل اتمام الزيارة.هكذا تبدو عملية تبادل الجثث بين اسرائيل «القلقة» من النوايا الايرانية و«حزب الله» القلق على مصير سلاحه ووجوده من سلسلة زيارات خصومه الداخليين الى عاصمة «الشيطان الاكبر» والذين حرص رئيس كتلة الحزب النائب محمد رعد على «ابقائهم ملائكة» و«لكنهم يأبون» .. تبدو بادرة حسن نية و«شيكاً مدفوعاً» لامر الحساب الروسي الجديد في المنطقة لتعزيزه بمصداقية يحتاجها الحليف الروسي المفترض في دفاعه عن الملف النووي الايراني امام «محكمة» الامم المتحدة في شهر ديسمبر القادم والتي يتأهب الادعاء الاميركي لعرض اتهامه لطهران مجدداً طالباً لها عقوبات جديدة.ليس بعيداً عما كانت تشهده طهران من قمة الدول المطلة على بحر قزوين، وعن معبر الناقورة على الحدود الدولية اللبنانية – الاسرائيلية الذي شهد فصلاً مفاجئاً من «دبلوماسية تبادل الجثث»، كان الرئيس السوري بشار الاسد يقوم بـ«زيارة تاريخية» من حيث توقيتها للعاصمة التركية التي كانت تغلي على نار القرار الذي اعتمده الكونغرس الاميركي باعتبار الضحايا الارمن على ايدي السلطنة العثمانية مطالع القرن الماضي ضحايا «حرب ابادة» في وقت كان البرلمان التركي يبحث امر السماح لـ«جيش العلمانية» باطلاق حملة عسكرية ضد متمردي «حزب العمال الكردستاني» داخل الاراضي العراقية في اقليم كردستان، وابداء الرئيس السوري الزائر، على ما حملت اخبار الزيارة، «تفهما» لحاجة تركيا الى القيام بهذه الحملة العسكرية ضد الحزب الكردي الذي كاد وجوده على الحدود السورية – التركية، وفي منطقة البقاع اللبناني في تسعينات القرن الماضي ان يتسبب بحرب بين البلدين قبل ان يبادر الرئيس السوري الراحل حافظ الاسد الى نزع فتيلها وابعاد زعيمه عبدالله او جلان العام 1998 الى بلد افريقي ليقع فريسة سهلة في ايدي المخابرات التركية بعد فترة وجيزة. وفي حين «تسلحت» طهران بالزيارة التاريخية للزعيم الروسي الطامح الى اعادة مجد الامبراطورية السوفياتية السابقة، في معركتها مع الولايات المتحدة والغرب حول ملفها النووي، كانت سوريا عبر زيارة رئيسها لانقرة تحاول بالتوازي، فتح ثغرة في جدار الحصار الاميركي-الاسرائيلي حولها عبر «القناة التركية» التي طار وزير خارجيتها علي باباجان الى القدس المحتلة الاسبوع الماضي حاملاً النوايا السورية الحسنة للسلام بعد الغارة الاسرائيلية الجوية على الشمال السوري على ما تؤكد اسرائيل انها منشآت نووية كورية شمالية ويصر الجانب السوري على كونها «قاعدة مهجورة للصواريخ».بدت زيارة الرئيس السوري لأنقرة محاولة استكشاف للاثمان التي تطلبها القيادة السورية لقاء فك تحالفها مع طهران وللضمانات التي مكن لنظام دمشق الحصول عليها على ابواب تشكيل «المحكمة الدولية» في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الاسبق رفيق الحريري التي اكد الرئيس الاميركي العزم على تسريع انشائها في اقرب وقت ممكن خلال استقباله للنائب سعد الحريري في البيت الابيض مؤخراً، ومسارعة الامين العام للامم المتحدة بان كي مون الى تشكيل لجنة اختيار قضاتها وشروع بعض الدول بالاعلان عن مساهماتها المالية فيها واولها فرنسا التي اعلنت عن مساهمتها بمبلغ ستة ملايين دولار.جاءت المساهمة الفرنسية هذه متزامنة مع العرض الفرنسي الدائم للقيادة السورية بتسهيل اجراء الانتخابات الرئاسية اللبنانية مقابل «انفتاح هائل» فرنسي واوروبي على النظام السوري، ليتبعه الاتصال الهاتفي الذي اجراه «صقر الخارجية الفرنسية» برنارد كوشينر بوزير الخارجية السوري وليد المعلم فيما بدا ايضاً تحفيزاً للقيادة السورية على الخروج عن السكة الايرانية وسلوك سكك «النجاة» البديلة، ومنها «القناة التركية» قبل ان يتحول «لبنان الكبير» الحديقة الخلفية لسوريا، الى «قاعدة عسكرية اميركية» بعد «تصغيره»!.والحديث عن «تصغير» لبنان بعدما فاض «كبره» عن حاجة القوى الدولية اليه، وبات مصدراً للمشاكل وساحة لتصفية الحسابات وارسال الرسائل بين القوى الاقليمية والدولية المتصارعة، وبعدما اخفق اللبنانيون في فهم معنى استمراره بالصورة التي اسس وفقها منذ العام 1920 عندما انضمت «الاقضية الاربعة» الى جبل لبنان او ما كان يعرف بـ«لبنان الصغير،» لم يعد حديثاً «تهويلياً». واذا صحت التسريبات (الاسرائيلية) عن قرب انشاء قاعدة عسكرية اميركية في منطقة الشمال اللبناني «لاعادة التوازن» الى النفوذ الاميركي في هذه المنطقة على ضوء الزخم الذي شرع يكتسبه النفوذ الروسي فيها فإن لبنان بصورته الكيانية القائمة سائر الى الاختفاء عن الخارطة بخطى حثيثة ليس أدلّ عليها اكثر من اخفاق اللبنانيين في العثور على «رئيس توافقي» وافتراق رؤيتهم الى مستقبله ودوره افتراقاً حاداً ترعاه القوى الخارجية التي تتجاذب اطراف النزاع فيه.يبقى السؤال كيف يترجم اللبنانيون هذاالافتراق، ان حصل، وهل يكفي «تصغيره» تحت عناوين «الفدرالية» الخادعة لدرء مخاطر الانفجار الذي هيأت له احداث السنوات الثلاث الماضية كل عناصر الاكتمال؟.قد يبدو هذا الكلام شديد التشاؤم، الا ان الواقع الذي يحيط بهذا البلد المبتلى بالصراعات الاهلية منذ نشوئه يبقى افصح من التمنيات والاحلام التي يعيشها اللبنانيون هذه الآونة بأن ترحمهم الاقدار ويرأف بهم الاقوياء في «صراع الوجود» الذي ذر بقرنه منذ 11 ايلول عام 2001، ولم يدرك اللبنانيون ولا العرب مخاطره على كياناتهم التي باتت كلها في مهب العاصفة القادمة على المنطقة.
Leave a Reply