الفاتحة كانت انتفاضاتٍ بإرادة شعوبٍ مقهورة، لكن الخاتمة تتّجه نحو تفتيت الأوطان وتدويلها. فهو الآن زمنٌ إسرائيلي، العربي فيه يقتل أخاه العربي.. وإسرائيل تتفرّج. ألم يقل ذلك أحد قادة إسرائيل بعد حرب العام 1967 بأنّ هذه الحرب لم تحقّق الأمن الإسرائيلي وبأنّ أمن إسرائيل يتحقّق فقط حينما يكون كره العربي للعربي أكثر من كرهه للإسرائيلي؟!.
هو زمنٌ إسرائيليٌّ حينما يُدان الآن التنبيه للسوريين وكل العرب بعدم تكرار ما حدث في لبنان والعراق والجزائر والسودان وليبيا، حيث سقط مئات الألوف من المواطنين الأبرياء ضحيّة الأنظمة وسوء تصرّف معارضيها المتعاون بعضهم مع القوى الأجنبية. وهو زمن إسرائيلي حينما لا يجوز الحديث عن مشاريع إسرائيل وأعمالها لعقود من أجل تقسيم الأوطان العربية، بحجّة أنّ هذا الحديث يخدم أنظمةً حاكمة!.
سيأتي يوم، ربّما بعد قرنٍ من الزمن، يتساءل فيه العرب من جديد عمّا حدث في مطلع القرن الحادي والعشرين من خديعة دولٍ لهم بوعودٍ بالديمقراطية أنتجت دويلاتٍ طائفية تسبح في الفلك الإسرائيلي، وسيكون هناك أكثر من «شريف حسين وأمير فيصل» وحركة وفصيل يعقدون اتفاقاتٍ وتفاهمات مع قياداتٍ غربية وصهيونية، فقط كي يكون لهم حصص في الحكم حتّى على أنقاض أوطان. وسيذكر التاريخ العربي بمرارة تجربة حزبية قومية اسمها «البعث» حكمت في العراق وسوريا، وتجربة حزبية دينية اسمها «الإخوان المسلمين»، حيث ساهم كلاهما في موقعيْ الحكم والمعارضة بإضعاف الهويّات الوطنية والقومية والدينية، وكلاهما سبّب استدعاء التدخّل الأجنبي في الأمَّة، وكلاهما أنتج ظواهر مارست الموت والدمار في أوطانهما، وكلاهما ساعد على وأد أوّل تجربة وحدوية عربية في مطلع الستينات، وكلاهما ارتبط بالأجنبي ثمّ انقلب الأجنبي عليه، وكلاهما خدع الناس بشعارات وأخلّ بتعهدات ثم استباح كلّ الأمور للوصول الى السلطة.
روسيا والصين والهند هي دول لم يحتلّ أيٌّ منها أيَّ بلدٍ عربي في التاريخ القريب أو المعاصر بينما عانت بلدانٌ عربية كثيرة من تبعات الاستعمار البريطاني والفرنسي ثمّ من الاحتلال الأميركي للعراق، وأيضاً من الوجود الإسرائيلي المدعوم من «حلف الناتو». أمّا إيران، رغم تحفظّاتٍ كثيرة على مشروعها الإقليمي، فهي لم تسيطر على المنطقة العربية لأربعة قرون بل تركيا هي التي فعلت ذلك، وهي التي تطمح الآن بعد رفض عضويتها في الاتحاد الأوروبي، لإعادة بناء الإمبراطورية العثمانية في دول المشرق العربي وتدعم وصول جماعات سياسية إسلامية للحكم في عموم المنطقة العربية. وتركيا الدولة الإسلامية هي عضوٌ مهمٌّ جدّاً في «حلف الناتو»، وهي التي أبرمت اتفاقاتٍ عديدة مع إسرائيل وأقامت لسنواتٍ عديدة مناوراتٍ عسكرية مشتركة معها.
بعض قوى المعارضة العربية يعتبر أيَّ نقدٍ للتدخّل الاجنبي بمثابّة «دفاع عن النظام الحاكم»، وهي بذلك تضع نفسها في موقع المدافع عن الأجنبي ومصالحه لا عن مصالح الشعب الذي تدّعي تمثيله.
دون شك، فإنّ أسهل الحلول النظرية الآن للأزمة السورية هي أن يعلن الرئيس بشار الأسد استقالته وأن يسلّم الرئاسة لنائبه لكي تكون هناك مرحلة انتقالية يتمّ خلالها انتخاب رئيسٍ جديد ومجلس نواب وإعداد دستور جديد. كلُّ ذلك هو سهلٌ من الناحية النظرية، لكن الواقع هو أنّ موضوع سوريا لم يعد يرتبط بمصير شخص أو نظام إنّما بالموقع الإقليمي والدولي لسوريا، وهذا هو جوهر الصراع الدائر الآن على سوريا، وضحاياه هم الشعب السوري كلّه. ونتيجة الصراع ستكون أحد ثلاثة احتمالات: الأول، وهو ما تأمله روسيا والصين وإيران والهند: إصلاحات وتغييرات داخلية في النظام لكن مع بقاء سوريا إقليمياً ودولياً في موقعها الحالي وبسياستها التي مارستها في السنوات العشر الماضية تحديداً، والمتحالفة مع روسيا وإيران خصوصاً، ومع المقاومتين اللبنانية والفلسطينية في مسألة الصراع مع إسرائيل… أو الاحتمال الثاني، وهو المنشود من «حلف الناتو»: مجيء نظام حكم سوري جديد يرتبط بالحلف ويقطع العلاقة مع روسيا وإيران ومع المقاومة في لبنان وفلسطين، ممّا سيحدث تغييراً كبيراً في الواقع السياسي للمشرق العربي، بحيث تكون سياسة سوريا حينها امتداداً للسياسة الأميركية في المنطقة، وما سيعنيه ذلك من انعكاساتٍ على القضية الفلسطينية ومصير أي مقاومة ضدَّ اسرائيل. أمّا الاحتمال الثالث، وهو المرغوب إسرائيلياً، فهو دخول سوريا في حربٍ أهلية مدمّرة تؤدّي إلى تقسيمها وتقسيم جوارها اللبناني والعراقي، وجعل الأردن هو الدولة الفلسطينية، وحلّ مشكلة اللاجئين الفلسطينيين من خلال توطينهم في الدويلات الجديدة.
لو استقال الرئيس بشار الأسد الآن فماذا سيكون مصير «الجيش السوري الحر» والقوى الأخرى المسلّحة والمتنافسة على الأرض السورية؟ هل سيضعون سلاحهم وأنفسهم بتصرّف الحكومة المركزية أم سيفعلون مثل الميليشيات المسلّحة في ليبيا، التي ما زالت تسيطر على مناطق وترفض الدولة المركزية وتتصارع فيما بينها؟ وهل ستشهد سوريا ما شهدته أفغانستان في مرحلة بعد سقوط النظام الشيوعي في كابول من صراعاتٍ مسلّحة لعقدٍ من الزمن انتهت بحكم «حركة طالبان»؟!.
في الاحتمالات كلّها لن يبقى النظام الذي عرفته سوريا في العقود الماضية. ففي الاحتمال الاول (أي التسوية السياسية ووقف العنف، كما هي بنود مؤتمر جنيف الأخير) سيكون هناك نظام ديمقراطي مضمون دولياً لكن بلا تغييراتٍ جوهرية في السياسة الخارجية. وفي الاحتمال الثاني، سيحصل التغيير في النظام وفي التحالفات الخارجية وفي دور سوريا في المنطقة. وطبعاً، فإنّ الاحتمال الثالث سيُغيّر النظام والكيان معاً. وأجد أنّ مراهنة حلف «الناتو» على الاحتمال الثاني هي كالمراهنات الفاشلة لواشنطن و«الناتو» على حربيْ العراق وأفغانستان حينما سمعنا وقرأنا أقوال «المحافظين الجدد» عن «الشرق الأوسط الجديد» وعن العراق «النموذج الديمقراطي» للمنطقة كلّها.. ثم جرت رياح الأحداث عكس ما اشتهت سفن وطائرات «الناتو». فقط الاحتمال الثالث (الحروب الأهلية المدمّرة) هو القائم الآن على أرض الواقع في سوريا وفي أزمات المنطقة العربية عموماً. فقط إسرائيل ستحصد صراع القوى الإقليمية والدولية على سوريا. فالسوريون والعرب الآن إلى مصيرٍ مجهول، وستشهد المنطقة من جديد ما شهدته منذ مائة عام من رسم خرائط جديدة ومن مراهنات على الخارج ومن حصد صهيوني لهذه المتغيّرات بينما العرب بما لديهم منشغولون..
لا بارك الله بالأموال الطائلة التي يتمّ دفعها الآن لكلّ كاتبٍ ومفكّر وإعلامي ودبلوماسي ومحلل سياسي أو عسكري يدعو للتدخّل العسكري الأجنبي في الأوطان العربية ويسكت عمّا يحدث في الأمّة العربية وأوطانها من إشعالٍ لحروبٍ أهلية ومن تشويهٍ لحقائق الصراعات ومن تفتيتٍ تشارك فيه قوًى حاكمة ومعارضة.
قرأت هذه الأبيات ولا أعلم من قائلها:
وما من كاتبٍ إلا سيفنى ولا يُبقي الدَّهرُ إلا ما كتبَتْ يداه
فلا تكتُبْ بكفِّكَ غيرَ شيءٍ يسُرُّكَ يومَ القيامةِ أنْ تراه
Sobhi@alhewar.com
Leave a Reply