صبحي غندور
أربع سنوات مضت على بدء ما اُصطلح على تسميتها بثورات «الربيع العربي»، لكن هذا الوصف صحّ فقط على ما نجحت به ثورة تونس أولاً، ثمّ بعدها ثورة مصر، من تحريكٍ للشارع العربي، ومعه الأمل العربي بفجرٍ جديد على بلدانٍ سادها لعقودٍ ظلام وظلم الفساد والاستبداد والتبعية.
لكن ما نجح من أسلوبٍ وأهداف فـي تجربتيْ مصر وتونس لم يُكتب له النجاح فـي أمكنة عربية أخرى. فالظروف اختلفت، كما اختلفت أيضاً القوى الفاعلة فـي مصير هذه البلدان الأخرى.
هناك بلا شك إيجابياتٌ تحقّقت حينما انطلقت الانتفاضات الشعبية، لكن مظلّة السلبيات هي التي ما زالت تغطّي سماء المنطقة وتحجب شروق شمس التغيير السليم المنشود فـيها. فثورتا تونس ومصر اتّسمتا قبل أربع سنوات بالأسلوب السلمي وبالطابع الوطني التوحيدي وبغياب مخاطر التقسيم والتدويل، وبالأمل فـي تغيير سياسي يصبّ فـي صالح الوطن والعروبة ونهج المقاومة، لا فـي صالح الأجانب وإسرائيل ونهج الشرذمة.
أمّا الثورات العربية الأخرى، فقد انحرفت عن مصالح نفسها وأوطانها وأهدافها. فالمنطقة هي الآن ساحة تنافس وصراع مصالح بين قوى إقليمية ودولية، بينما يغيب تماماً أيُّ «مشروع» عربي، وفـي ظلِّ حضور «مشاريع» غير العرب.
لقد أشرْت مع بداية ثورتيْ تونس ومصر إلى أنّ الثورات هي أساليب يرتبط نجاحها بتوفّر القيادات المخلصة والأهداف الواضحة والبناء التنظيمي السليم. كذلك ناشدْت، فـي الأسبوع الأول من انطلاقة الثورة الليبية، الجامعةَ العربية، ومصرَ تحديداً، بالتدخّل لصالح الثورة والشعب الليبي، قبل أن يتدخّل الأجانب وقبل أن تصبح ليبيا أمام مخاطر التدويل والتقسيم. وطبعاً لم يحدث ذلك عربياً ولا مصرياً. أيضاً، كتبْت عن «المتغيّرات» العربية التي تحدث فـي ظلّ «ثوابت» ظروف وصراعات فـي المنطقة، والتي منها التحدّي الإسرائيلي ومراهناته على إضعاف العرب بتفتيت وحدة شعوبهم وأوطانهم، وبإشعال الفِتَن فـي المشرق العربي وإضعاف نهج المقاومة فـي لبنان وفلسطين.
فالثورات العربية حدثت بينما أوطان بعض هذه الثورات تقوم على مفاهيم وأفكار وممارسات طائفـية ومذهبية وقبلية تؤذي الثورات والقائمين بها، وهي كانت بلا سياج وطني عام يحميها من شرور القوى الخارجية ذات المصلحة فـي إحداث فتنٍ داخلية.
والمنطقة العربية كانت، وما تزال، فـي حالٍ من الصراعات والخلافات بين حكومات دول المنطقة، ولم يؤدِّ بعدُ التغيير الذي حدث فـي مصر إلى إعادة التضامن العربي، الذي تصبح المنطقة فـي غياب حدِّه الأدنى، فارغةً من أيّ رؤية أو «مشروع» عربي يقابل ما هو يُطرَح (ويُنفَّذ) من رؤى ومشاريع إقليمية ودولية. فتكون المنطقة العربية مُسيَّرةً فـي سياساتها وأوضاعها، حتّى لو أدّى بعض هذه الثورات إلى جعلها مُخيَّرةً فـي أمورها الداخلية.
ولعلّ رؤية ما حدث فـي السنوات الأخيرة، وما زال يحدث، من إشعال لمناخاتٍ انقسامية داخلية فـي العديد من البلدان العربية، لَتأكيدٌ بأنّ ما تحقّق حتّى الآن هو خدمة المشاريع الإسرائيلية فـي تفتيت المنطقة العربية وأوطانها إلى دويلاتٍ طائفـية ومذهبية متصارعة، تكون فـيها «الدولة اليهودية» هي الأقوى وهي المهيمنة على باقي الدويلات. فالهدف هو تكريس إسرائيل «وطناً لليهود» بشكلٍ موازٍ مع تدمير وانهيار «الأوطان» الأخرى فـي المنطقة. أمّا «الوطن الفلسطيني»، فممرّه من خلال القبول بـ«الاستيطان» و«التوطين» معاً. أي وطنٌ فلسطينيٌّ ممزّق أرضاً وشعباً.
قبل أربع سنوات، تردّد فـي «ميدان التحرير» بالقاهرة شعار «الشعب يريد إسقاط النظام». ثم أصبح هذا الشعار عنواناً لانتفاضاتٍ شعبية عربية فـي أكثر من مكان. لكن لم يكن واضحاً فـي كلّ هذه الانتفاضات «كيف سيكون إسقاط النظام» ثمّ ما هو «البديل الذي يريده الشعب»، وأيضاً، ما هو الخطّ الفاصل بين «إسقاط النظام» و«عدم سقوط الوطن».
فالفاتحة كانت انتفاضاتٍ بإرادة شعوبٍ مقهورة، لكن الخاتمة اتجّهت نحو تفتيت الأوطان وتدويلها. هو الآن «زمنٌ إسرائيلي»، العربي فـيه يقتل أخاه العربي… وإسرائيل تتفرّج!!. هو «زمنٌ إسرائيليٌّ» حينما يسقط عشرات الألوف من المواطنين العرب الأبرياء ضحيّة صراعاتٍ داخلية بين أنظمة ومعارضين يتعاون بعضهم مع قوى أجنبية… وهو «زمنٌ إسرائيلي» حينما لا يجوز الحديث عن مشاريع إسرائيل من أجل تقسيم الأوطان العربية، بحجّة أنّ هذا الحديث يخدم أنظمةً حاكمة!، ثمّ إنّ بعض قوى المعارضة العربية تعتبر أيَّ نقدٍ للتدخّل الاجنبي بمثابّة «دفاع عن النظام الحاكم»، وهي بذلك تضع نفسها فـي موقع المدافع عن الأجنبي ومصالحه، لا عن مصالح الشعب الذي تدّعي تمثيله.
فإذا كانت الحكومات هي المسؤولة أولاً عن حال شعوبها وأوطانها، فذلك يعني أن المعارضات هي المسؤولة أخيراً عن مصير هذه الشعوب والأوطان. المعارضات تحرّكت لمحاسبة الحكومات، فمن الذي سيتحرّك لمحاسبة قوى المعارضة التي فشلت فـي امتحان التغيير نحو الأفضل؟!.
هذا الواقع العربي المرير الآن هو مسؤولية مشتركة بين الحاكمين والمعارضين معاً، فمِن المهمّ جدّاً إدراك مسؤولية المعارضات العربية عن مستوى الانحدار الذي بلغته بعض الأوطان، حيث تحوَّل مطلب تغيير الحكومات إلى مقدّمة لتهديم مجتمعات وكيانات وطنية.
فالمعارضات العربية معنيّةٌ بإقرار مبدأ نبذ العنف فـي العمل السياسي، وباتّباع الدعوة السلمية القائمة على الإقناع الحر، وبالتعامل مع المتاح من أساليب العمل السياسي، ثمّ بالتمييز الحازم بين معارضة الحكومات وبين تهديم الكيانات، حيث خلطت عدّة قوى عربية بين صراعها مع السلطات، وبين تحطيمها- بوعي منها أو بغير وعي- لعناصر وحدة المجتمع ولمقوّمات وحدته الوطنية.
وقد سادت فـي الأعوام الأربعة الماضية رؤيتان لتفسير ما يحدث فـي المنطقة العربية، وازداد الشرخ والمسافة بينهما يوماً بعد يوم. الرؤية الأولى اعتبرت أنّ «العدوّ» فـي هذه المرحلة هو «الاستبداد» الذي يجب إسقاطه ولو من خلال الاستعانة بقوًى أجنبية. أمّا الرؤية الثانية فكانت على الطرف النقيض، حيث اعتبرت أنّ الخطر الأكبر فـي هذه المرحلة هو التدخّل الأجنبي فـي شؤون البلاد العربية، وفـي السعي الدولي المحموم للهيمنة عليها من جديد، إضافة إلى خطر «الإرهاب» الحاصل عملياً، وبأنّ هذين الخطرين يستوجبان التسامح مع ما هو قائمٌ فـي داخل بعض الأوطان العربية من سوء فـي الأوضاع الدستورية والاقتصادية والأمنية!.
واقع الحال أنّ كلاً من الرؤيتين احتاج إلى نقدٍ وتصويب. فمواجهة الاستبداد الداخلي من خلال الاستعانة بالتدخّل الخارجي، جلب ويجلب الويلات على البلدان التي حدث ذلك فـيها، حيث تغلب حتماً أولويات مصالح القوى الخارجية على المصلحة الوطنية، ويكون هذا التدخّل نذير شرٍّ بصراعاتٍ وحروبٍ أهلية، وباستيلاءٍ أجنبيٍّ على الثروات الوطنية، وبنزعٍ للهويّة الثقافـية والحضارية الخاصّة فـي هذه البلدان. أمّا «التسامح» مع الاستبداد والفساد من أجل مواجهة الخطر الخارجي والإرهاب، فإنّه، ولو عن غير قصد، يدعم كلَّ المبرّرات والحجج التي تسمح بهذا التدخّل. فبمقدار ما يكون هناك استبدادٌ وتسلّط، تكون هنالك الأعذار للتدخّل الأجنبي.
لذلك كان مهمّاً استيعابُ دروس تجارب شعوب العالم كلّه، بأنّ الفهم الصحيح لمعنى «الحرّية» هو فـي التلازم المطلوب دائماً بين «حرّية المواطن» و«حرّية الوطن»، وبأنّ إسقاط أيٍّ منهما يُسقط حتماً الآخر. فهل ما حدث فـي المنطقة العربية خلال السنوات الأربع الماضية هو تعبيرٌ عن هذا الفهم الصحيح لمعنى الحرّية؟!
أيضاً، المشكلة فـي الموقف من هذه الانتفاضات والثورات الشعبية العربية أنّ المعايير ليست واحدةً عند العرب ككُل، فصحيحٌ أنّها تحدث على الأرض العربية وتترك تأثيراتها على المنطقة بأسرها، لكن ما هو معيارٌ شعبيٌّ عربيٌّ عام لدعم هذه الثورة أو تلك يختلف ربّما عن معيار أبناء الوطن نفسه. فمعظم العرب رحّبوا مثلاً بثورة «يناير» المصرية، لأنّها أنهت عهداً من سياسةٍ خارجية مصرية كانت لا تعبّر عن مصر وشعبها ودورها التاريخي الريادي، بينما المعيار الأهم لدى الشعب المصري كان مسائل داخلية؛ كالفساد السياسي للنظام السابق، والظلم الاجتماعي الناتج عنه، وغياب المجتمع الديمقراطي السليم.
التغيير حصل ويحصل فـي المنطقة العربية، بفعل التراكمات المتلاحقة للأحداث كمّاً ونوعاً فـي المجتمعات العربيّة، لكن السؤال المركزي هو: التغيير فـي أيِّ اتجاه؟ هل نحو مزيدٍ من السوء والتدهور والانقسام، أم التغيير يجب أن يكون استجابةً لحاجات ومتطلّبات بناء مجتمع أفضل، موحّد شعباً ووطناً، مستقرّاً فـي أمنه ومتحرّراً من أي هيمنة أجنبية؟!
فالمسألة هي ليست فـي رفع شعارات الديمقراطية وإسقاط الاستبداد فقط، بل هي فـي كيفـيّة الحفاظ على وحدة النسيج الاجتماعي فـي كلّ بلد، وبضمان أنّ طريق الديمقراطية لن يمرّ فـي تجزئة الكيانات، إن لم نقل فـي إخضاعها للسيطرة الأجنبية أولاً!.
Leave a Reply