صادف 15 أيار (مايو) الماضي الذكرى السنوية الـ69 لنكبة فلسطين، وها نحنا اليوم وبعد مرور أقل من ثلاثة أسابيع نعايش الذكرى السنوية الـ50 للنكسة -التي لعبت على غرار النكبة- دوراً حاسماً في طبيعة قراءتنا لتاريخنا العربي المعاصر الذي تعاقبت فيه الهزائم الواحدة تلو الأخرى، مع إصرار عجيب على تجاهل التوصيفات الحقيقية للانكسارات المتكررة، وابتداع مسميات وتوصيفات لها، ومصطلحات هي أقرب إلى استخدام الأقراص المسكنة للآلام منها إلى التفحص العلمي والعقلاني والبحث في أسباب تلك الهزائم التي بدأت بالنكبة ومرت بالنكسة.. وعلى الأرجح لن تتوقف عند مخرجات ما يسمى بـ «الربيع العربي».
استخدم مصطلح «النكبة» لأول مرة، المفكر قسطنطين زريق في كتابه «معنى النكبة»، وهو مصطلح يعكس الإحساس بالذنب، والإعراض عن الاعتراف بالهزيمة وتوثيق ما حل بالفلسطينيين عام 1948 عندما هجّرت الجماعات الصهيونية، الفلسطينيين من أرضهم واحتلت بلادهم على مرأى ومسمع من العرب جميعاً.
وهذه المقاربة العاطفية والانفعالية لحرب العام ٤٨ أعمتنا منذ ذلك الحين عن مراجعة أخطائنا وتنظيم صفوفنا لتجاوز المحن الكبيرة، وفي عام 67 ابتدعنا مصطلحاً آخر للتحايل على الهزيمة الساحقة التي منيت بها خمسة جيوش عربية أمام جيش الاحتلال الإسرائيلي.
وقد نحت الصحافي المصري محمد حسنين هيكل مصطلح «النكسة» لدى صياغته خطاب تنحي الزعيم الراحل جمال عبدالناصر بعد هزيمة 67. وجاء في ذلك الخطاب: «ولا نستطيع أن نخفي على أنفسنا أننا واجهنا نكسة خطيرة خلال الأيام الأخيرة، لكني واثق من أننا جميعاً نستطيع وفي مدة قصيرة أن نجتاز موقفنا الصعب وإن كنا نحتاج في ذلك إلى كثير من الصبر والحكمة».
وكان الهدف من اختيار ذلك المصطلح، التأكيد على إرادة مواصلة القتال حتى تحرير كامل الأراضي العربية المغتصبة، لكننا وبعد مرور خمسين سنة على الهزيمة الساحقة ما نزال نلعق جراحنا التي تتكسر فيها النصال على النصال..
تبعات حرب 67 لم تنته حتى اليوم، فإسرائيل ماتزال تحتل أكثر من 80 بالمئة من فلسطين إضافة إلى الجولان ومزارع شبعا اللبنانية، وماتزال تتجاهل قرار الأمم المتحدة 242 الذي يدعو الدولة العبرية إلى الانسحاب من الأراضي التي احتلتها قبل نصف قرن، رغم قبول العرب بمبدأ «الأرض مقابل السلام» في مؤتمر مدريد عام 1991 الذي ينص على العودة إلى ما قبل حدود الحرب لقاء اعتراف العرب بإسرائيل.
«حرب الأيام الستة» كما يسميها الإسرائيليون، حوّلت المشروع الصهيوني من مغامرة إلى مشروع مترسّخ، وتدفقت سيول الاستثمارات من الخارج إلى الدولة العبرية، وانتقلت إسرائيل في تلك المرحلة من اقتصاد القطاع التعبوي الاستيطاني إلى الليبرالية الاقتصادية، وتحول «الكيان» إلى دولة.
أما في العالم العربي، فقد بدأ المشروع العربي بالتقهقر منذ ذلك الحين، ليصل إلى الحضيض برحيل عبد الناصر الذي كان موته بمثابة الضربة القاضية لأحلام العرب وتطلعاتهم بالوحدة.
وعلى أثر انحسار المشروع القومي العربي، بدأت النزعات المذهبية والفئوية تنخر في الجسد العربي وتتغلغل فيه، بغطاء من قوى الرجعية التي تصدت لمشروع النهضة القومية، ليجد الخطاب الطائفي مساحات واسعة للتعبير عن نفسه عقداً بعد آخر حتى كشف عن أنيابه بعد سقوط العراق.
الرئيس المصري الراحل أنور السادات أطلق رصاصة الرحمة على شعارات عبد الناصر.. رغم انتصاره في أكتوبر عام 1973. لقد فشل السادات -وأفشل العرب معه- في استثمار حرب تشرين سياسياً وثقافياً واكتفى بتسجيل النقاط في مرمى الإسرائيليين، الذين تحولوا إلى مجرد خصوم في الخطاب السياسي المصري، بعدما كانوا في أدبيات الخطاب القومي العربي أعداء محتلين ومغتصبين للحقوق والأراضي العربية.
وبعد خمسين عاماً على حرب 67، أصبح احتلال إسرائيل للأراضي العربية والأراضي الفلسطينية تحديداً أمراً راسخاً إلى درجة يبدو معها أن مفاوضات السلام بين السلطة الفلسطينية والدولة العبرية ليست أكثر من مسرحية هزلية، وأن «حل الدولتين» مجرد حلم لا يقدر الإسرائيليون حتى على تصوره، وقد بات هدفاً غير قابل للإنجاز بسبب التمدد السرطاني للمستوطنات الإسرائيلية وتغلغلها داخل الأراضي الفلسطينية.
وخلال السنوات الأخيرة، دخلت القضية الفلسطينية في عنق الزجاجة، فبات الفلسطينيون وحدهم يواجهون جبروت إسرائيل وطغيانها اليومي في الداخل، فيما تغرق ما كانت تسمى بـ«دول الطوق» في مستنقع آسن من الحروب الداخلية والصراعات والانقسامات السياسية والطائفية التي تكاد لا تبقي ولا تذر…
في ١٩٦٧ مني العرب بالنكسة، وبعد خمسين عاماً ماتزال النكسات العربية تتوالى يومياً في سوريا والعراق واليمن ومصر وليبيا.. ولا تبدو الدول العربية الأخرى بعيدة عن المصير نفسه!
Leave a Reply