لا تعكس خطابات أمين عام “حزب الله” الأخيرة حالة قلق او ضغط كنتيجة مفترضة للضغوط الناجمة عن ملف المحكمة الدولية في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، بل ان التمعنّ في طيات الخطاب يؤشر الى الأبعاد الحقيقية التي اتخذها مسار المحكمة في أروقة السياسة الإقليمية والدولية. هي مؤشرات يمكن تلخيصها ضمن الملاحظات التالية:
– يسعى السيد حسن نصر الله لاكتساب معركة رأي عام عربي واقليمي أكثر منه محلي، من خلال التصويب على مصداقية ومهنية التحقيق والمحكمة، من دون الخوض في سجالات داخلية، وعبر تحويل وجهة التصويب نحو اسرائيل باعتبارها المستفيدة الأولى من مسار المحكمة وما يمكن ان يصدر عنها.
– يركز “حزب الله” في خطابه السياسي والإعلامي على اعتبار المحكمة اداة دولية لاستهدافه. في هذا السياق، لم يعد موضوع “الفتنة” السنية-الشيعية حاضرا بقوة في مفردات الخطاب لدى السيد نصر الله باعتباره هاجسا (بالمستوى الذي كان عليه في المرحلة السابقة)، وحلّت بدلا منه تحذيرات من حرب شاملة قد تندلع في المنطقة بمبادرة اسرائيلية، على خلفية تدحرج مراحل ما بعد القرار الظني.
– يُبدي السيد نصر الله في اطلالاته المتتالية تفاؤلا وتمسكا بالمساعي السعودية-السورية، على الرغم من عدم تعويل شريحة سياسية لبنانية كبيرة على هذا المسار. التفسير المنطقي لتمسك السيد نصر الله بهذا المسعى هو محاولته رمي الكرة في ملعب المعرقلين لأي تسوية يمكن أن تسبق صدور القرار الظني، فضلا عن اندراج كلامه في إطار التأكيد على دعم الحزب لأي مسعى عربي لحلحلة الامور، في مواجهة الحملة التي يتعرض لها.
– بالرغم من حالة التوتر النسبية في الشارع اللبناني، فإن ما يتهامس بشأنه العارفون بخبايا الأمور في كواليس السياسة اللبنانية لا يؤشر الى حاجة “حزب الله” لتنفيذ 7 أيار جديد، لأسباب عديدة لا تستدعي استخدام القوة، بحُكم ان السيد نصر الله قد نجح الى حد كبير في امتصاص “صدمة” القرار الظني قبل صدوره. وبالتالي فإن “حزب الله” لا يجد نفسه معنيا في موقع رد الفعل على القرار مباشرة بعد صدوره.
بناءً على ما تقدم، يمكن استخلاص نتيجة مغايرة لما هو متداول في الإعلام المحلي والاقليمي: إن تحذير نصر الله، في خطابه الأخير من “خطأ القرار الظني الذي يستعجل عليه الاميركيون والاسرائيليون وبدأوا يقيمون له احتفالات النصر”، يعكس حسابات ابعد بكثير من لبنان وتتعلق بتراجع الدور الأميركي في المنطقة في مقابل التقدم الإيراني. وما حديث نصر الله عن “الوزن الإقليمي” للحزب الا مؤشراً الى حقيقة الصراع الدائر (وهي حقيقة أشارت اليه صراحة الصحافة البريطانية في الآونة الأخيرة عند حديثها عن دور “حزب الله” في تشكيل الحكومة العراقية). بكلمات اخرى، تسعى واشنطن الى وضع ملف المحكمة الدولية في اغتيال الرئيس الحريري على طاولة التفاوض مع طهران في إطار منظومة اعادة ترتيب وضعها بعد الانسحاب من العراق وسعيها لحل المسألة الأفغانية؛ الأمر الذي ترفضه طهران وحلفاؤها.
هذا الواقع يفترض سيناريوهات أبعد مما يتم التركيز عليه في وسائل الإعلام اللبنانية، إذ ان القرار الظني سيتحول تلقائيا الى استهداف شخصيات ايرانية متى ما تبينّ ان لا فائدة عملية من اتهام افراد من “حزب الله”. في هذا السياق، عادت التسريبات الإعلامية عن “تورط مسؤولين سوريين وايرانيين”. ومن شأن تحول كهذا ان يُلغي تلقائيا الكثير من مفاعيل المحكمة على الصعيد اللبناني أو ان يساهم –بالحد الأدنى من غير عمد– في شرعنة اي اجراء قد تتخذه المعارضة اللبنانية، من ضمن المؤسسات الرسمية، في مواجهة اخر خطوط الهجوم عليها.
ولمن يشكك في تقدم “حزب الله” سياسيا الاستفسار عن حراك ضباط من قوات الامم المتحدة المؤقتة في جنوب لبنان باتجاه الأهالي بُغية الإطلاع على ردود أفعالهم عند صدور القرار الظني، في خطوة تلامس خوفا حقيقا لدى العديد من اللاعبين الدوليين في التورط في صدام مع البيئة المحيطة بـ”حزب الله”؛ وهو ما أشار اليه نصر الله حرفيا في خطابه بإعلانه عن رسائل وصلت اليه عبر قنوات خاصة تبلغه موقف بعض العواصم الغربية عدم ايلائها الاهتمام بملف المحكمة.
أما في ما يتعلق بالسيناريو الأكثر تداولا حاليا في الإعلام اللبناني والمتعلق بعدوان اسرائيلي يتبع صدور القرار الظني، فإن مؤشرات عديدة منحصرة تحديدا بالعلاقة الأميركية-الاسرائيلية تجعل من هكذا عدوان حدثا مؤجلا في المدى الزمني القريب، قبل التوصل الى نتيجة مؤثرة عبر استخدام “القوة الناعمة” لكسر مفعول الصورة الثلاثية في دمشق، بما يُفهم منه لدى الجانب الاسرائيلي والأميركي على أنه “الفرصة المناسبة” لشن حرب جديدة.
بأي حال، ومهما تباينت تفاصيل السيناريوهات، لا يبدو الحزب في موقع الدفاع، في مرحلة ما بعد القرار الظني.
Leave a Reply