بقلم: صبحي غندور
الحفاظ على المقاومة من أجل تحرير الأرض المحتلّة، ليس مجرّد شعارٍ للاستهلاك العاطفي. هو واقع حال الصراع العربي/الإسرائيلي منذ قيام الكيان الصهيوني الإسرائيلي قبل 66 عاماً. فهذه النتيجة العملية لكيفيّة استرجاع الأراضي المحتلة برزت ساطعةً دون أيّ تشويه من خلال تجربة المقاومة اللبنانية، التي أجبرت إسرائيل في أيّار (مايو) 2000، على الانسحاب من الأراضي اللبنانية ودون أيَّة شروط أو معاهدات أو تنازلات.
وهاهي إسرائيل مرّةً أخرى تكرّر خطأها التاريخي في محاولة تصفية ظاهرة المقاومة الفلسطينية ضدّ احتلالها الغاشم عوضاً عن إنهاء الاحتلال نفسه.. ومرّةً أخرى أيضاً وقفت بعض الحكومات الغربية مع إسرائيل وخلفها في هذه السياسة المخالفة لكلّ الشرائع والقوانين الدولية التي تُقرّ حقّ الشعوب بمقاومة المحتلّ لها.
لكن هذه السياسة الإسرائيلية ليست جهلاً بدروس التاريخ وحقائق الشرائع الدولية، بل هي استمرار في المراهنة على القائم عربياً من صراعاتٍ وانقسامات. إذ هل كان ممكناً أن تقوم إسرائيل بهذا الحجم الكبير من القتل والتدمير في قطاع غزّة لو لم تكن هناك موافقات ضمنية من بعض أطراف المنطقة على إنهاء ظاهرة المقاومة الفلسطينية المسلّحة ضدّ إسرائيل؟. فلو كانت إسرائيل تحسب أنّ عدوانها في العام 2006 على لبنان، ثمّ في نهاية العام 2008 على قطاع غزّة، ثمّ في العام 2012 مجدّداً على غزّة، ثم بتكرّر العدوان الآن بأبشع صوره على القطاع المحاصر، بأنّ ذلك سيدفع بمصر والأردن والدول العربية والإسلامية الأخرى التي تقيم علاقات مع إسرائيل إلى قطع هذه العلاقات وإلى وقف كلّ أشكال التطبيع معها، وإلى توفير كلّ الدعم للمقاومة الفلسطينية، هل كان لإسرائيل أن تحتمل هذه الخسارة كلّها مقابل عدوانها؟!
فالمشكلة الأساس كانت وستبقى بما هو حاصلٌ فلسطينياً وعربياً من مواقف وانقسامات وصراعات وحروب أهلية يبني عليها العدوان الإسرائيلي. المشكلة هي في تنازلات عربية وفلسطينية جرت سابقاً في المفاوضات والاتفاقيات مع إسرائيل.
فلِمَ، في الحدّ الأدنى، لا تفرض الحكومات العربية ودول العالم الإسلامي على مجلس الأمن وأطراف اللجنة الرباعية اعتبار إسرائيل دولة محتلّة؟! فهذا توصيف حقيقي ينزع الشرعية الدولية عن المحتلّ الإسرائيلي ويضمن، متى فشل أسلوب المفاوضات، حقّ المقاومة ضدّ الاحتلال.
لقد انتقل الصراع العربي/الإسرائيلي من تقزيمٍ له أساساً بالقول إنّه صراع فلسطيني/إسرائيلي إلى تقزيمٍ أكبر بوصفه الآن صراع إسرائيل مع «منظمات مسلّحة» في قطاع غزّة!.
إنّ الطرف العربي المراهن على أسلوب المفاوضات فقط، قَبِل بتجزئة الجبهات العربية وبإلغاء مقولة «الصراع العربي/الإسرائيلي» أو شمولية المسؤولية عن القضية الفلسطينية، فتحوّلت المعاهدات مع إسرائيل إلى تسويات جزئية منفردة استفادت منها الحكومات الإسرائيلية كي تمارس حروباً وضغوطاً أكثر على الفلسطينيين، وعلى الجبهات الأخرى التي لم تشملها بعدُ التسويات. لذلك، فإنّ المراهنة على دور أميركي «نزيه ومحايد» يتطلّب تحسين الواقع التفاوضي الفلسطيني والعربي، بل تغيير نهج معتمد منذ أكثر من ثلاثة عقود. فواقع الحال الفلسطيني والعربي عموماً لا يمكن أن يشكّل الآن قوّة ضاغطة، لا على الحكومة الإسرائيلية ولا أيضاً على الموقفين الأميركي والأوروبي. فالقضية ليست ما تريده إدارة أوباما وما قد تفعله، ففي الاحتمالات كلّها هناك مسؤولية كبيرة تقع على الفلسطينيين خصوصاً، وعلى العرب عموماً، وبداية الطريق تكون بوحدة الموقف الفلسطيني على أسس تجمع بين المفاوضات وبين الحرص على نهج المقاومة، وهو ما نرى تباشير له تحدث الآن من خلال التوافق الذي حدث بشأن الحكومة الفلسطينية، ثمّ بما نراه على أرض فلسطين من وحدة الشعب ومن المظاهرات الشعبية في الضفة والقدس وفي الداخل الإسرائيلي. أمّا عربياً، فإنّ الحدّ الأدنى المطلوب الآن للتعامل مع «عواصف نتنياهو» و«ضبابية أوباما»، يكون في رفض أيِّ شكلٍ من أشكال الاعتراف بإسرائيل أو التطبيع معها قبل قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وتحرير الأراضي المحتلّة، وفي دعم التوافق الفلسطيني على برنامج وطني توحيدي للتحرير ولقيام الدولة المستقلّة.
إنّ مشعل المقاومة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي قد تحمله هذه الجهة أو تلك، لكنّه لا يجب أن يخمد أبداً، فقبل «حركة حماس» وغيرها من المنظمات ذات الإتجاه الفكري الإسلامي، الذي قد يختلف البعض معه الآن، كانت «حركة فتح» ومنظمات أخرى ذات اتجاهات سياسية مختلفة تحمل هذا المشعل. فالحفاظ على نهج المقاومة هو تأكيد لمقولة (الأرض مقابل المقاومة) بعدما ثبت فشل المقولات الأخرى، وفي هذا الأمر أيضاً إعادة الحيوية لنهج تفتقده الآن المنطقة العربية، وهو نهج رفض الذلّ والهوان مع العدوّ المحتل، نهج قادر على استعادة الأرض والكرامة. نهج يضع خطّاً فاصلاً بين اليأس من واقع المفاوضات، وبين اليأس من إمكان تحصيل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، بحيث يستطيع الشارع الفلسطيني أن يميّز الآن بدقّةٍ بين ما هو ميؤوسٌ منه وما هو مطموحٌ إليه عن طريق المقاومة ورفض الاستسلام للأمر الواقع.
هذه هي «الواقعية» الجديدة التي أفرزتها تجارب المقاومتين اللبنانية والفلسطينية، «واقعية» نهج المقاومة التي ترفض التراوح المذِل في المكان نفسه، فتتحرّك بإقدامٍ وصبر وعزيمةٍ وثقة بالله وبالنّفس، وتنتصر رغم حجم الخسائر والتحدّيات.
لقد كانت مسألة المستوطنات، في السنوات الماضية من عهد الرئيس أوباما، رمزاً لمدى العجز العربي والضعف الأميركي من جهة، والاستهتار الإسرائيلي من جهةٍ أخرى بمن يمدّ إسرائيل بالسلاح والمال والدعم السياسي لعقودٍ طويلة. فإذا كانت الإدارة الأميركية (ومعها كل أطراف اللجنة الرباعية) غير قادرة على إجبار إسرائيل على وقف بناء المستوطنات، فكيف ستجبرها إذن على إخلاء الأراضي الفلسطينية المحتلّة وتسهيل بناء الدولة الفلسطينية المستقلّة؟!
إنَّ واشنطن تضغط على العرب والفلسطينين لكي يستمر أسلوب التفاوض مع إسرائيل في ظلّ شرط التخلّي الكامل عن أسلوب المقاومة ضدّ الاحتلال، طبعاً دون أيِّ اعترافٍ أميركي بطبيعة الاحتلال الإسرائيلي الذي أقرّت شرائع الأمم المتحدة حقّ مقاومته. فواشنطن واضحة جداً فيما تطلبه وتريده من الفلسطينيين والعرب، لكنّها غامضةٌ جداً فيما تريده من إسرائيل. ولا يمكن اعتبار التباين الذي حصل بين أميركا وإسرائيل حول مسألة الإستيطان، أو الآن حول حجم الخسائر الفلسطينية في غزّة، بأنّه شرخٌ في العلاقات الأميركية/الإسرائيلية، فالمسألة هي في كيفيّة رؤية الاحتلال الإسرائيلي، وبالتالي رؤية أميركا لكيفيّة حقّ مقاومته.
أساس المشكلة الآن هو الاحتلال الإسرائيلي وليس فقط «حجم الخسائر» أو «موضوع الإستيطان» أو «الأسرى الفلسطينيين».. أساس المشكلة هو عدم حديث واشنطن عن مسؤولية الاحتلال الإسرائيلي، بينما تتحدّث واشنطن كثيراً عن “حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها” وترفض حقّ الفلسطينيين بمقاومة الاحتلال..
أساس المشكلة الآن، أنَّ «المفاوضات والاتقاقيات» أعطت لإسرائيل حتّى الآن الكثير من التنازلات، ولم تأخذ منها الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني وبإنهاء الاحتلال للأراضي الفلسطينية..
أساس المشكلة الآن هو الوضع العربي، الذي يمزّق بعضه بعضاً، وفي ذلك أيضاً مصالح إسرائيلية كبيرة تراهن على مزيدٍ من التقسيم والتجزئة للأوطان العربية، وعلى تفكيك وهدم ما هو موجود من مؤسسات عسكرية قد تشكّل، كما حدث في حرب العام 1973، خطراً عليها.
ومهما حاولت الهيئات والمؤسسات العربية في أميركا، ومهما تظاهر وتحرّك الأميركيون والأوروبيون، فإنّ الاضطرار الأميركي لمراجعة السياسة يحصل فقط حينما تتحرّك المنطقة العربية نفسها.
ستراجع واشنطن حساباتها كثيراً لو يتزامن أسلوب مقاومة الاحتلال مع تحرّكٍ كبير للشارع العربي ومع حراكٍ داعمٍ له من الحكومات العربية، خاصةً تلك التي لها علاقات أو اتفاقات مع إسرائيل. إذ أنّ أيَّ موقفٍ علني وعملي ساخط من هذه الحكومات على العدوان الإسرائيلي وعلى السياسة الأميركية المشجّعة له، سيجعل كلمة العرب والفلسطينيين مسموعةً أكثر في واشنطن وفي الغرب عموماً.
في الأحوال كلّها، فإنّ الشارع الفلسطيني قد تجاوز أزمة الواقع الدولي والعربي الراهن. فالعبارة التي يردّدها الآن هي: «ارفَع رأسك يا أخي، فقد حان وقت المقاومة»!!.
Leave a Reply