ثلاثة أسابيع فقط تفصلنا عن اول استحقاق انتخابي لهذه السنة، في مدينة ديربورن والعديد من المدن والكيانات السياسية في منطقة ديترويت وولاية ميشيغن، ليبدأ بعدها، في الأسبوع الأخير من نيسان الحالي، الموسم السياسي الذي بدأت ارهاصاته بشيء من السلبية، والكثير من التشويش، وسط مساعٍ متفاوتة للتقليل من حدة الخلافات الموروثة عن الجولة الإقتراعية الأخيرة على منصب قضائي في المحكمة التاسعة عشر، الخريف الماضي، والتي بعثت في المجتمع العربي الأميركي منازعات ومواقف، كان يحلو للكثيرين أن يعتقدوا بأننا تخلصنا منها.
حديث الانتخابات في الجالية، ككل القضايا العامة فيها، له كثير من الشجون، وللأسف، قليل من الإحتراف والتمرس، فحتى الآن وعلى الرغم من الإعصار السياسي الذي أوصل المرشح العنصري والعدائي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وأعاد الجمهوريين، المناوئين بالفطرة، للمهاجرين والملونين والأقليات، ونحن منها، إلى الأغلبية المريحة في كلا مجلسي النواب والشيوخ في الكونغرس، يبقى الحيّز الأكبر من الاهتمام العام في الوسط العربي الأميركي المحلي، مشغولاً بأدوات ولغة ومقاربات قديمة، لا تنتج أكثر من المشاحنات، ولا تؤدي الاّ إلى المزيد من الانفعالات والخصومات… والثرثرة.
نظرة سريعة على خريطة المرشحين والطامحين، حتى الآن (ربما تتغير بعض الأرقام قبل اغلاق باب الترشيح في الخامس والعشرين من نيسان الحالي)، تشير إلى شح في المرشحين، حتى أن انتخابات المجلس البلدي قد تجري بلا انتخابات تمهيدية في آب، لأن عدد المرشحين اقل من ضعف عدد المقاعد، فاذا بقي عدد المرشحين أقل من 14 لن تكون هناك حاجة إلى عقد جولة تصفيات أولية، كذلك الأمر بالنسبة لمناصب إدارية أخرى قد يفوز مرشحوها بالتزكية، أو لن تكون هناك حاجة للتصفيات فيها أيضاً لإقتصار المتنافسين على اثنين فقط.
هذه الصورة في جانب منها تعكس عزوف العرب الأميركيين، وخصوصاً فئة الشباب عن العمل السياسي، وهذا أمر مؤسف اولاً، ويستدعي تالياً اهتمام المؤسسات العربية الأميركية والشخصيات العامة المهتمة بالمستقبل العربي الأميركي. والنقص هنا لا يعبّر عن عدم وجود كفاءات أو طموحات أو ملكات قيادية، فالجامعات القريبة والبعيدة تعج بالشباب العربي الأميركي، والمؤسسات الخيرية والحقوقية والشبابية الأميركية، وخصوصاً التي تعنى بالأقليات والحقوق الدستورية والمدنية، تستقطب عشرات الطاقات العربية الأميركية المميزة والمنتجة والواعدة، حتى مؤسسات الجالية نفسها تزخر بالمتطوعين من الشباب والصبايا القادرين على التعبير عن أنفسهم بطرق مبدعة.
المشكلة اذاً في العزوف عن الخوض في غمار الحياة العامة في الجالية، والذين تابعوا الموقعة الانتخابية الأخيرة التي استعادت ضغائن داحس والغبراء في ديربورن، قد لا يلومون الشباب على النأي بأنفسهم عن السياسة في «أتون» الجالية، إلا أن ذلك على وجاهته، ليس قدراً محتماً على الجالية ولا ينبغي أن يكون.
صحيح أن في المكونات الاجتماعية للعرب الأميركيين في ديربورن اعتبارات جهوية وعائلية وجيلية وحتى طبقية –قائمة اصلاً على السبق في الهجرة والتجنس–، إلا أن هذه المكونات ليست سلبية صرفة، ويمكن توظيفها إيجابياً بالتأكيد، (هذا إذا وجدنا في الجالية من يقول لرجل الأعمال الذي قام بالاعتداء بالضرب على عضو المجلس البلدي مايك سرعيني أن هناك قانون فوق الجميع وهناك طرق أفضل لحل مشكلة قانونية مع البلدية،، وأن الجميع يعرف أنه لم يكن ليقدم على هذه الفعلة المشينة لو كان مايك سرعيني من عائلة أخرى أو بلدة أخرى أو منطقة أخرى … بعلبك مثلاً). لكن هذه الغصات تحصل، ولا ينبغي أن تأخذ الحياة السياسية العربية الأميركية رهينة.
بطبيعة الحال يسعى «أهل الخير» لإصلاح «ذات البين» على الطريقة البلدية… و«أبو ملحم» حاضر ناضر بالمواعظ والسجع. شخصياً، لا أشكك في نوايا أي من المصلحين، لكن هذه الطريقة تطيل أمد المشكلة وتمدد في عمر الأزمة، وتعيد وضع زمام الأمور في الجالية بأيدٍ بعيدة جداً عنها، خصوصاً في بيروت، وأحياناً في صنعاء وعدن، بالنسبة للجناح الآخر من الجالية. هناك حلّ أفضل وأنجع وأثبت فعاليته. في المشاكل ليأخذ العدل مجراه ولتكن السيادة للقانون وحده. أما في السياسة فلا نحتاج إلى تخمين أو تصورات أو مندل.
من العرب الأميركيين شاب اسمه عبدالله حمّود (شخصياً لا اعرفه ولم تتح لي ظروفي أن التقيه). شاب موهوب وكما تدل سيرته الذاتية ذكي وكفؤ تعليمياً. هذا الشاب ابن العائلة المهاجرة المولود في ديربورن والمتعلم في مدارسها وخريج «جامعة ميشيغن – آناربر»، لم يتجاوز العقد الثالث من عمره بعد. نظر إلى مجتمعه –ليس فقط جاليته– رأى أن بمقدوره أن يفعل شيئاً، قرر أن الحكومة هي التعبير الأشمل عن الناس، ترشح لمنصب هام وهو عضوية مجلس نواب ميشيغن في تجربته السياسية العامة الأولى. اسم عائلة عبدالله مغرٍ إلى حد ما، لم يستخدم ذلك الإسم ولم يستثمر فيه. عروبة عبدالله لا شك فيها إلا أنه في طرحه وبرنامجه لم ينعزل وينظر إلى الداخل بل انطلق إلى الفضاء العام لدائرته. لم يدخل إلى مسجد ليستجدي الأصوات باسم الله، ولم يدخل إلى كنيسة ليساوم على جاليته بالجملة. تصرف كمحترف ونجح، ولولا ذلك النجاح لما بقي لنا من ذكرى انتخابات العام الماضي سوى صدمة ترامب والحرب الأهلية التي أوشكت أن تدب في ديربورن (لن أسمّي احداً احتراماً لذكر عبدالله).
في لانسنغ، لم يخذل عبدالله امال أحد من ناخبيه واقرانه ومعارفه وجيرانه العرب الأميركيين. كان حيث يجب أن يكون. كان أول صوت في مجلس نواب الولاية يرتفع ضد عنصرية ترامب، وكان أول صوت في دورته يرفع صلاة أهله وما يؤمن به من على منصة الشعب، دون مواربة أو حرج. لمن يريد أن يجيب على السؤال حول كيفية اخراج العرب الأميركيين من أزمتهم لينظر إلى تجربة عبدالله حمّود، فليست كل الصورة سلبية وليست كل الأرحام السياسية في الجالية عقيمة ولسنا أول من ينخرط في العمل السياسي. أما الذي يريد أن يترشح لأسباب نرجسية أو ليرفع يافطة تهنئة بالفوز في بلدته في الوطن الأم، فليرحمنا ويرحم جيلاً كاملاً من أبنائنا وبناتنا الذين لا ينتمون إلى ثقافة المخاتير والكواع والزعيم.
Leave a Reply