عندما أعلن وزير الدفاع فايز غصن عن وجود لتنظيم «القاعدة» في لبنان، وأن عناصره يتمركزون في عرسال، جوبه بحملة سياسية وإعلامية كفّرته، وخرج وزير الداخلية مروان شربل، ليرد بأن لا وجود له بل هناك متعاطفون معه، وقد سخّف ما قاله زميله الوزير غصن المسؤول مثله عن الأمن الوطني والقومي في لبنان، والذي يستند في معلوماته الى مديرية المخابرات في الجيش، وهي مؤكدة لديه، وكان على الوزير شربل الضابط المتقاعد في قوى الأمن الداخلي، أن يكون على معرفة في أن التنظيمات الإرهابية، هي خلايا نائمة، لا تتقدّم من وزارته بطلب ترخيص لمزاولة عملها السياسي، ولا تقيم لها مراكز، بل عملها سرّي، وتأخذ من بعض المساجد التي تسيطر عليها أو تبنيها أماكن لها للدروس الدينية، كما هي الحال في كثير من الدول الإسلامية، حيث كثر إنشاء ما يسمى بـ«المدارس الدينية» التي كانت واجهتها تعليم القرآن، وفي مضمونها زرع الفكر التكفيري والجهادي، وهو ليس من الإسلام بشيء، بل مستمد من تاويلات لمشايخ وفتاوى لرجال دين، حيث بيّنت التحقيقات الأمنية والقضائية في كل الدول التي اكتشفت فيها مجموعات إرهابية، إنما كان أعضاؤها هم من الذين يتردّدون على مدارس دينية تنشر الفكر التكفيري أو من مساجد، أئمتها هم من أتباع الوهابية أو إبن تيمية وآخرين.
سعد الحريري (أرشيف) |
ففي لبنان كما في دول أخرى، بدأت ظاهرة الإسلاميين المتطرفين في حقبة الثمانينات من القرن الماضي، مع الحرب التي كانت تشنها الولايات المتحدة الأميركية ضد النظام الشيوعي في العالم وعلى رأسه الإتحاد السوفياتي، فاستخدمت «الإسلام السياسي» والجهادي منه تحديداً لحربها على الوجود الشيوعي في أفغانستان، وتمّ تدعيم هذه الحرب بعناصر ومجموعات إسلامية من دول عربية كان يتمّ تجنيدها من قبل أنظمة خليجية من مجموعة «البترودولار»، والحليفة لأميركا، وعندما انتهت الحرب بسقوط النظام الشيوعي عاد المقاتلون الى بلدانهم ومنهم عاد الى دول عربية قدموا منها وأُطلق عليهم إسم «الأفغان العرب»، وشكّلوا مع آخرين في العالم الهيكلية لما سمي تنظيم «القاعدة» في العالم بزعامة أسامة بن لادن الذي لم تعرف بعد ظروف مقتله قبل سنوات في باكستان، والذي أوصل حركة «طالبان» الى الحكم في أفغانستان كنقطة إنطلاق نحو استعادة «الخلافة الإسلامية» في العالم، عبر حروب تشن على المجتمعات الجاهلة، لإقامة «حكم الله» فيها، حسب أهوائهم.
وكان للبنان نصيب من «الأفغان العرب» لكن كانوا قليلي العدد ودون فعالية، لأن تنظيم «القاعدة» لم يقرّر أن لبنان ساحة جهاد، بل ساحة دعوة للإسلام الصحيح، فكان تأسيس جمعيات خيرية واجتماعية ودينية، كان «الإسلاميون المتطرفون» يعملون عبرها.
وكان أول ظهور لمجموعة تكفيرية عام 1994 عقب اغتيال رئيس «جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية» الشيخ نزار الحلبي في بيروت من قبل «عصبة الأنصار»، ثم في اغتيال القضاة الأربعة في قصر العدل بصيدا على يد عناصر هذه المجموعة في العام 1999، ثمّ مطلع عام 2000 عندما قامت جماعة أطلقت على نفسها «التكفير والهجرة» التي صعدت الى جرود الضنية في شمال لبنان واصطدمت بالجيش الذي كفّرته وقتلت ضباطه وجنوده، قبل أن يقضي عليها ويعتقل عناصرها.
وبعد سبع سنوات على أحداث جرود الضنية، حصلت معارك مخيم نهر البارد في الشمال أيضاً، بين تنظيم «فتح الإسلام» والجيش الذي تمّ اغتيال عشرين من عناصره وهم نيام في خيمهم ومراكزهم، حيث تمكّن الجيش من القضاء على هذه العصابة المسلحة بعد ثلاثة أشهر من المعارك العسكرية، والقبض على مَن لم يفر منها، إذ تمكّن قائد هذه العصابة شاكر العبسي من الهرب، ولم يكشف عن وجوده فيما بعد، وبقي لغز هروبه قائماً، إذ تردّدت معلومات أنه قتل وهو ذاهب عبر سوريا الى الأردن أو العراق، للإلتحاق بجماعة «أبو مصعب الزرقاوي» الأردني الذي قُتل عام 2006 في العراق، وكان العبسي مقرباً منه ومن قادة هذه الجماعة.
فوجود تنظيمات أو تيارات متعاطفة وملتزمة بفكر «القاعدة» يعود الى حوالي ثلاثة عقود، أما وأن يخرج «أبوسياف الأنصاري» في رسالة صوتية ليعلن عن إنشاء فرع «للدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) من مدينة طرابلس، ويعلن الولاء لاميرهذه الدولة «أبو بكر البغدادي» الموجود في العراق، فهو تطور في قضية وجود مجموعات إسلامية متطرفة في لبنان، وإن كانت «داعش»، لا تختلف عقائدياً وتوجهاً تكفيرياً عن «جبهة النصرة» التي أعلنت مسؤوليتها عن عمليات تفجير في الضاحية والبقاع وقصف صواريخ، أو «كتائب عبدالله عزام» التي سبق لها وأعلنت عن وجودها من خلال عمليات قتل لعناصر من القوات الدولية العاملة في الجنوب أو قصف صواريخ على «إسرائيل»، أو تبنّي مسؤوليتها عن تفجير السفارة الإيرانية وآخر في حارة حريك أو قصف صواريخ على الهرمل.
فهذه التنظيمات التكفيرية هي ذات منبع فكري واحد، ولها ذات الهدف وهو إقامة «الخلافة الإسلامية»، ولبنان يدخل في نطاق ساحاتها، وأن «داعش»، قرّرت أن توسع مساحة عملها إذ يقع لبنان من ضمن بلاد الشام وهي كما تنظيمات إسلامية أخرى ومنها «حزب التحرير» لا يقرّون بالتقسيمات الجغرافية والسياسية التي نفّذها الإستعمار الفرنسي والبريطاني في بلاد الشام، ولا يعترفون بالحدود التي أقامها.
ولاقت «داعش» كما «جبهة النصرة» و«كتائب عبدالله عزام» بيئة حاضنة لها، جرى تحضيرها وتعبئتها مع اندلاع الأزمة في سوريا، ومحاولة «الإخوان المسلمين» الوصول الى الحكم، تحت عنوان «الثورة السورية» على غرار ما حصل في تونس ومصر وليبيا واليمن، لكن تجربتهم أثبتت فشلها وأسقطهم الشعب في هذه الدول وبدأ يسترد الثورة الحقيقية منهم كما في مصر وتونس، وهم لم ينجحوا في سوريا سوى بالتدمير والقتل والإرهاب، وسيطرة على أرياف بعض المدن الشمالية في حلب وإدلب ودير الزور والرقة وقرب العاصمة دمشق وبعض أنحاء درعا.
فوصول «تنظيم داعش» الى لبنان هو لمد «الدولة الإسلامية» من العراق وتحديداً من غربه في محافظة صلاح الدين ومحافظة الأنبار والفلوجة وديالى وغيرها من المدن، حيث الدعوة الى الإنفصال عن الدولة المركزية في بغداد وإقامة «حكم ذاتي»، تسعى «داعش» ليكون إسلامياً بالسيطرة على المنطقة وتخوض حرباً مع الجيش العراقي، والصحوات من العشائر والقبائل، وهي المعركة الممتدة الى سوريا، التي سيطرت «داعش» على شمالها وتخوض حرب وجود مع «جبهة النصرة» بقيادة أبو محمد الجولاني الذي لم يقدم الولاء للبغدادي، فوقع الصدام بينهما على مَن تكون له القوة والسلطة على الأرض، وهذا ما ينتظر لبنان، إذ أن البغدادي قرّر ضمه الى «دولته» وأن أول ما سيلجأ إليه بعد أن وصف اميره في لبنان أبو سياف الأنصاري الجيش اللبناني بـ«جيش الصليب» هو تفكيك الجيش بإرهاب الضباط والعناصر السّنّة فيه لإنشقاقهم عنه كما دعاهم وإنشاء كتائب لرموز إسلامية منهم كما حصل في سوريا، وانتشرت مجموعات مسلحة لما سُمي «لواء التوحيد» وكتائب الفاروق، و«جيش الإسلام»، وغيرها من الأسماء، والتي تعني كلها أن الشمال وعاصمته، سيكون «إمارة إسلامية»، كما هي الحال في شمال سوريا، وسيبدأ ظهورها بطرد الجيش من طرابلس أولاً، ولم تكن عمليات إطلاق النار عليه واستهداف دورياته ومراكزه وقتل ضباطه وجنوده، إلا بدء عملية إخراج «الجيش الصليبي» من المدينة بعد أن ينشقّ عنه العسكريون السّنّة، ويبطل معه وجود جهة أمنية رسمية تضبط الأمن وتخفف من حدة المعارك، لتبدأ المرحلة الثانية من الخطة وهي اقتلاع العلويين من جبل محسن، بعد أن تكون انتهت عملية اجتثاث الأحزاب العلمانية والحركات الإسلامية المتحالفة مع «الروافض»-الشيعة و«حزب الله» وهذا ما حصل قبل سنة وسيستكمل نهائياً، ليتم بعد ذلك توحيد المجموعات المسلحة باللين أو بالقوة تحت إمرة «داعش»، كما يحصل في سوريا، التي تدور معارك فيها بين المجموعات الإسلامية المسلحة سقط فيها حوالي ألفي قتيل.
وإعلان «داعش» عن وجودها في لبنان، حرّك رئيس «تيار المستقبل» سعد الحريري الذي شعر مؤخراً أن «السجادة سُحبت من تحت قدميه»، وأن الساحة السّنّية التي منحته ولاءها بعد اغتيال والده الرئيس رفيق الحريري سياسي وعاطفياً وغرائزياً، بدأت تنفك عنه، ويلجأ شبابها الى الجماعات التكفيرية، وقد ساعدتهم بذلك التعبئة المذهبية في تحريك الشارع بوجه «حزب الله» الذي بدأ يتضرّر أيضاً من أن الطائفة السّنّية بدأت تنزلق نحو التطرف الذي رفضه الحريري ولم يقبل أن يكون السنة في المعركة بين «القاعدة» و«حزب الله»، وأصدر بياناً تصدى فيه لما أعلنته «جبهة النصرة» بتحذيرها السّنّة من التواجد في مناطق «حزب الله» لأنها ستواصل استهدافها والتي تضم أكثرية شيعية، حيث شعر الحريري أن الجماعات التكفيرية بدأت تستقطب السّنّة والشباب منهم تحديداً، إذ أن عدداً من العمليات الإنتحارية في لبنان أو سوريا قام بها لبنانيون سُنّة، وأن حوالي 800 قتلوا في سوريا ينتمون الى الطائفة السّنّية في لبنان، وهو ما يؤشر الى أن «داعش» وأخواتها من الجماعات التكفيرية ستحل مكان «تيار المستقبل» الموصوف بأنه تنظيم علماني ولا يمثل السّنّة لأن في قيادته مسيحيون وشيعة ودروز، وهو بهذا المعنى مكفّر من المجموعات الإسلامية، وأنه هدف لهم متى أحكموا سيطرتهم على المدن والبلدات ذات الكثافة السكانية من أهل السّنّة.
لذلك كان قرار الحريري القبول بحكومة سياسية جامعة، يكون فيها «حزب الله» الذي لا يتورع «تيار المستقبل» من انتقاده ويعتبره السبب في إنحراف الطائفة السّنّية نحو التطرّف، لأنه لم يقبله رئيساً للحكومة وانقلب عليه، وهذا ما بدأ يحصده «حزب الله» الذي ظهر في مواجهته الشيخ أحمد الأسير وجماعات تكفيرية، وبدأ يخسر في الساحة السّنّية، ومحاولة جره الى فتنة مذهبية، تسبب بها مشاركته في القتال الى جانب النظام السوري، كما يقول الحريري وفريق «14 آذار»، وأن تفادي ذلك هو بالإنسحاب من سوريا، والعودة الى لبنان لأن مَن يقاتلهم الحزب فيها من التكفيريين قد وصلوا الى لبنان.
Leave a Reply