في الوقت الذي كان «حزب الله» يحقق إنجازاً عسكرياً كبيراً، في تحرير جرود عرسال وفليطة ضمن السلسلة الشرقية لجبال لبنان، من «جبهة النصرة»، وهي فرع الشام لتنظيم «القاعدة» الإرهابي، كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب، يستقبل رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري، ويعلن أمامه بأن «حزب الله» منظمة «إرهابية»، مما أوقع نفسه بسخرية أمام الرأي العام العالمي، الذي كان يستمع إليه، وهو يهذي، إذ كيف يكون «إرهابياً، مَن يقاتل التنظيم الإرهابي، الذي نفذ هجمات 11 أيلول 2001، ولم تتمكن واشنطن من القضاء عليه رغم حربي أفغانستان والعراق، ليقوى الإرهاب وينتشر في العالم، بالرغم من ادعاء أميركا بأنها قتلت مؤسس «القاعدة» أسامة بن لادن في باكستان دون أن تظهر جثته، مما لفّ حقيقة مقتله بغموض.
زمن الانتصارات
«حزب الله» تمكن من تنفيذ عملية عسكرية خاطفة، دامت نحو 48 ساعة، استطاع مقاتلوه خلالها، أن يدحروا عناصر «النصرة» ليهرب أميرهم «أبو مالك التلي» طالباً الاستسلام والخروج مع مسلحيه الإرهابيين وعائلاتهم إلى إدلب، وهو الأسلوب الذي يتبعه إرهابيو القاعدة في سوريا، بعد الهزائم التي مُنوا بها.
اندحر الإرهابيون التكفيريون عن جرود عرسال، كما سبقهم الإرهابيون الصهاينة في العام 2000، بتحرير الجنوب منهم تحت ضربات المقاومة، وهو ما رفع دور «حزب الله» إلى مصاف الجيوش النظامية القتالية باستخدام «حرب العصابات» والإغارة، مما لفت أنظار الخبراء العسكريين نحو أسلوبه في القتال ضد الجيش الإسرائيلي الأقوى في المنطقة. كما أن مقاتلي «النصرة» و«داعش» مدرّبون ومجهّزون ولديهم خبرة في القتال بأفغانستان والعراق، ومنهم مقاتلون أتوا من دول في شرق آسيا، ودول آسيا الوسطى في القوقاز والشيشان وإقليم الإيغور في الصين، وهؤلاء خاض ضدهم «حزب الله» مع الجيش السوري معارك في غالبية المحافظات السورية فاكتسب خبرة عسكرية جديدة إلى رصيده.
وكما في كل مرة يحقق «حزب الله» انتصاراً أهدى أمينه العام السيد حسن نصرالله الانتصار على «النصرة» إلى الشعب اللبناني، كأحد الأقانيم الثلاثة في ذهبية «الجيش والشعب والمقاومة»، والتي كانت الرافعة للانتصارات اللبنانية، وهي تتكرّس في الميدان بالرغم من أن قوى سياسية معروفة الولاء الخارجي والانتماء السياسي، تحاول دائماً التشكيك بالانتصارات والتقليل من أهميتها أو ربطها بمشاريع خارجية، حيث الحديث بأن «حزب الله» إنما يعمل لصالح أهداف إيرانية مثل البرنامج النووي، كما جرى التداول به أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان ومقاومته صيف 2006، ليخرس هؤلاء بعد أن هزمت المقاومة الجيش الذي لا يُقهر، ليتبيّن بأن مَن حضّر وأعدّ وخطّط للعدوان، هو الإدارة الأميركية برئاسة جورج بوش، الذي كان يطرح مشروعه «للشرق الأوسط الجديد أو الكبير»، وأن إسرائيل كانت في خدمته كما حلفاء لأميركا في مشروعها من فريق 14 آذار في لبنان، الذي حرّكته واشنطن من أجل الضغط لنزع سلاح «حزب الله» الذي أفشل المشروع الأميركي الذي أطلقه جورج بوش وطوره باراك أوباما، فقلب «الشرق الأوسط الكبير» على المقاس الأميركي–الإسرائيلي، إلى «شرق أوسط للمقاومة»، حيث يحقق محورها الانتصارات من العراق إلى سوريا ولبنان وصولاً إلى فلسطين.
دور الجيش
كذلك الجيش اللبناني شريك للمقاومة في انتصاراتها، فلم يحصل أي تناقض أو تنازع بينهما، لا بل تكامل ظهر مجدداً على الأرض أثناء المعركة الأخيرة في جرود عرسال –رغم عدم وجود غرفة عمليات مشتركة– إذ لعب الجيش دوراً أساسياً، في حماية عرسال البلدة من تسلل المسلحين إليها، أو إلى مخيمات النازحين السوريين في محيطها، فعزلها عن المعارك في الجرود بعد أن شنّ حملة مداهمات على بعض المخيمات في عمليات أمنية استباقية أوقف فيها نحو أكثر من خمسين إرهابياً كانوا سيتحركون في البلدة ضد الجيش ويعرقلون عملية «حزب الله» العسكرية لدى انطلاقها. لكن نجاح الجيش في مداهماته، وتطهير البلدة ومخيماتها من خلايا الإرهابيين، خلق أرضية صالحة ليتقدم مقاتلو «حزب الله» في الجرود دون أن يتم تحريك عرسال ضدهم، بإظهارها مستهدفة مذهبياً فأسقطت رهانات مَن حاول في السابق استغلال هذا الموضوع وإثارة النعرات الطائفية لحماية التكفيريين، وذلك بعد الفشل في محاولة تأليب الرأي العام ضد الجيش وتظهيره كمؤسسة عنصرية ضد السوريين، بزعم قتل أربعة موقوفين منهم تحت التعذيب.
لقد وفّر الجيش الحماية الخلفية للمقاومة في معركة جرود عرسال التي سعى إليها الجيش منذ سنوات، لاسيّما بعد الاعتداء على مراكزه وقتل وخطف ضباط وعسكريين منه في 2 آب (أغسطس) 2014، حيث شلّت حركته في الرد، من قبل الحكومة التّي كان يترأسها تمام سلام، وكان القرار السياسي للجيش بصد أي عدوان للجماعات الإرهابية على مواقعه، رافضاً تقدمه باتجاه مناطق أخرى. فأوقفت عمليته العسكرية للثأر لجنوده والردّ على ما أصابه من نكسة إثر غدر الإرهابيين به، بالتواطؤ مع أفراد من عرسال انتظموا مع «النصرة» و«داعش»، وشكلوا رأس حربة داخل عرسال التي تحولت إلى بلدة محتلة من الإرهابيين في ظل انكفاء الحكومة اللبنانية عن منح غطاء للجيش.
معركة داعش
القرار السياسي هو ما كان ينقص الجيش لتحرير عرسال وجرودها من الإرهابيين، ومع التغيرات السياسية والميدانية الأخيرة التي شهدها لبنان، بات على الجيش أن يقضي على تنظيم «داعش» في جرود رأس بعلبك والقاع، آخر معاقل التكفيريين قرب الحدود السورية، وقد بدأ فعلاً التجهيز للمعركة التي تنتظر ساعة الصفر، حيث يرتبط التوقيت بالقرار من السلطة السياسية الممثلة بالحكومة التي يقول فريق فيها، وفي مقدمهم رئيسها سعد الحريري، إنه لا يوافق على عملية «حزب الله» في جرود عرسال، والجيش ليس معنياً بها، ويصمت أمام الرئيس الأميركي حول توصيف وتصنيف «حزب الله» إرهابياً، وهو شريك في الحكومة، حيث ينتظر أن يواجه الحريري أسئلة حول مواقفه لا سيما وأن مسؤولين في «تيار المستقبل» يصرون على اعتبار ما جرى في جرود عرسال، أنه قتال بين تنظيمين إرهابيين، مما سيعيد تظهير الخلاف السياسي الداخلي، وهو موجود، مع أن «حزب الله» يعمل لتخطيه ومنع حصول توتر سياسي داخلي، سعى البعض لاستدراجه إليه.
فما تحقق في جرود عرسال، وهو منتظر أيضاً في الجرود التي يسيطر عليها «داعش» وتبلغ مساحتها 200 كلم2 (من جرود يونين إلى رأس بعلبك والفاكهة والقاع)، حيث تقع هذه المناطق في إطار عمليات الجيش الذي لا يوفر الجهد في التصدي للإرهابيين، بمنع حركتهم، وهو نجح في إيقاعهم بكمائنه، فقتل منهم العشرات وأوقف عشرات العناصر مما يضعه في مواجهة دائمة معهم، وقد امتلك المبادرة ولم يعد في موقع الدفاع، بل الهجوم الذي يمارسه عناصر الفوج المجوقل والمغاوير في الجيش، فيقومون بعملياتهم داخل المربعات التي يقيمها الإرهابيون في الجرود.
ولن تتأخر المعركة كثيراً كي تقع، حيث اقتربت ساعة الصفر، ولن يقصر «حزب الله» في تقديم المساعدة للجيش متى طلبها، لاسيما وأنه وضع المسلحين ضمن كماشة، وقطع الطرقات عنهم من الجانب السوري في الجراجير وفليطة وقارة وجبال القلمون الغربي.
لقد حقق لبنان نصراً عسكرياً على الإرهاب، في الوقت الذي يقدم إنجازات أمنية في توقيف شبكات إرهابية، وهذا ما وضعه بين الدول المتقدمة في محاربة الإرهاب، والتي عجز بعضها عن القيام بما قام به الجيش والأجهزة الأمنية الرسمية الأخرى، والتي هي في تنسيق فيما بينها، وفّره وزير الداخلية نهاد المشنوق، ومنع التنافس الذي يشكل ضرراً، وإن كان كل جهاز يعمل بمفرده، ويحقق النجاحات، إلا أن التنسيق بات ضرورياً وهو ما عزّز الثقة بين الأجهزة، وأخرجها من الاستخدام الداخلي الفتنوي، أو الاستغلال السياسي الذي أوقعها فيه السياسيون.
فمع تحرير الجرود في السلسلة الشرقية، وخروج المسلحين الإرهابيين وعائلاتهم وتفكيك مخيماتهم وتدمير مقراتهم ومراكزهم، فإن لبنان يكون قد دخل مرحلة أكثر استقراراً وأمناً باجثثات أحدى أكبر البؤر الإرهابية ومحاصرة الشبكات الإرهابية واعتقال أفرادها، مع البقاء على اليقظة والحذر، وفق مراجع أمنية، إذ أن الخلايا النائمة تبقى أخطر تهديد للأمن حول العالم.
Leave a Reply