وفيقة إسماعيل – «صدى الوطن»
هي ليست المرة الأولى التي يلقي فيها الجيش االلبناني القبض على خلية لتنظيم «داعش» الإرهابي، لكن اعترافات المقبوض عليهم هذه المرة كانت على مستوى عالٍ من الخطورة، ولا سيما أنها تأتي في لحظة حرجة يعيشها لبنان تطال كيان الدولة وأصل وجودها.
فبعد ظهوره المتكرر والمكثف في غير منطقة من العراق وسوريا، يبدو أن لبنان هو الوجهة التالية… هل هو مخطط متكامل لإعادة إحياء التنظيم الإرهابي وبعث الروح فيه من جديد، أم هو تزامن غير مقصود، تنشط فيه خلايا «الذئاب المنفردة»؟ فبعد االتفجير الانتحاري المزدوج والدامي في بغداد، نجا لبنان من كارثة محقّقة إثر كشف الخلية المذكورة وإفشال مسعاها.
إذن، وبعد شهر على اعتقالهم في بلدة عرسال عند الحدود مع سوريا، اعترف عناصر «داعش» بالتخطيط لتنفيذ عمليات إرهابية، وبتورط معظمهم –وهم 18 عنصراً– في الإعداد لمهاجمة مراكز عسكرية شرق البلاد، وبأنهم كانوا يخطّطون لإرباك الجيش عبر مهاجمته، وصولاً إلى تنفيذ عمليات انغماسية على نسق التفجير الانتحاري المزدوج في بغداد مؤخراً. وقد أطلق سراح ستة عناصر وظلُّوا رهن التحقيق، فيما سيمثل أمام المحكمة العسكرية 12 آخرون، لبنانيون وسوريون.
ومن خلال اعترافات الموقوفين تكوّنت قناعة لدى مديرية المخابرات، وبحسب مسؤولين فيها، بأن قرار «داعش» إعادة تفعيل عمله على الساحة اللبنانية، بات أقرب إلى التنفيذ، في ظل عدم الاستقرار الذي تشهده البلاد، واستغلال تحركات مطلبية على غرار تلك التي حدثت في طرابلس شمال البلاد الشهر الفائت.
معطيات أمنية خطِرة تأتي وسط مشهد سياسي قاتم لا يحمل في ثناياه أي بادرة حل، في ظل تعنت غالبية الأطراف السياسيين وإصرارهم على مواقفهم، رغبة في الحصول على مزيد من المكاسب، ما يؤدي إلى عرقلة تأليف حكومة جديدة، ويسهم إلى حد كبير في انهيار اقتصادي غير مسبوق، مع ملامسة سعر صرف الدولار العشرة آلاف ليرة لبنانية.
مأزق لبنان السياسي والاقتصادي يجعل الملف الأمني أكثر حضوراً، ويدفع باتجاه السؤال عمّن يقف خلف محاولة إعادة الإرهاب إلى الساحة اللبنانية، مستغلاً الأزمة السياسية والاقتصادية مع ما تسبّبه من شلل وعجز في المنظومة الأمنية.
العودة إلى الشارع
في مشهد مشابه لما حصل في تشرين الأول المنصرم، ومنذ عدة أيام، تشتعل شوارع مدن وأحياء عديدة في لبنان على خلفية ملامسة سعر صرف الدولار الأميركي سقف العشرة آلاف ليرة، علماً بأنه منذ أكثر من أسبوعين وهو يتأرجح صعوداً ونزولاً بين تسعة آلاف وعشرة آلاف ليرة. لكن وصوله إلى رقم عشرة آلاف استفزّ اللبنانيين، ربما لما يمثله في وعيهم الجمعي من ارتباط بحجم مساحة وطنهم الصغير المنهك، وعزّز خوفهم المتعاظم من تداعي أركانه فوق رؤوسهم، فنزلوا إلى شوارع المدن والأحياء، من أقصى الجنوب في مرجعيون إلى أقصى الشمال، في مشهد يحاكي وجعهم المشترك كمواطنين على اختلاف انتماءاتهم الطائفية والحزبية.
أزمات لا تعد ولا تحصى تعصف باللبنانيين، تزداد صعوبة مع مرور الوقت ليشتد الخناق عليهم أكثر فأكثر. من أزمة الارتفاع الجنوني للأسعار، إلى أزمة الرغيف، مروراً بأزمة الوقود التي تتجدد بين الحين والآخر، وصولاً إلى أزمة الكهرباء… وكل واحدة من هذه الأزمات تتشعب منها أزمات متعددة، ليس أقلها المزيد من البطالة في أوساط الطبقة العاملة، والشباب بنحو خاص، الأمر الذي يدفع بدوره نحو انفجار اجتماعي وشيك.
أزمات متنقلة… وغياب للحلول
في الأيام الأخيرة برزت بقوة، أزمة الكهرباء نتيجة الخلاف الحاصل بين وزارة الطاقة ومصرف لبنان على مبدأ التمويل، والتي أدت إلى تعليق السلفة المطلوبة لمؤسسة كهرباء لبنان، وسط مخاوف من زيادة التقنين بنحو كبير، وصولاً إلى ما يعني بالضرورة ارتفاع فاتورة المولدات البديلة، مع احتمال بلوغ مرحلة العتمة الكاملة. لكن شمول الأزمة مختلف المناطق، استدعى تحركاً نيابياً، أثمر خلال الأسبوع الماضي وصول سفينة فيول وتفريغ حمولتها في انتظار وصول باخرة ثانية.
التهديد الثاني الذي يطال حياة اللبنانيين في صميمها، هو التلويح المستمر لأصحاب المستشفيات بالانتقال إلى التعامل وفقاً لسعر الدولار المتداول في السوق السوداء، وليس كما هو معتمد في المنصة الرسمية، متذرعين بارتفاع أسعار المعدات الطبية والنقص الشديد في ساعات التغذية الكهربائية، ما يرتّب أعباء مالية إضافية عليهم، يقولون إنها تهدد مؤسساتهم الصحية بالانهيار وصولاً إلى الإقفال النهائي.
ومن جملة الأزمات، أزمة الرغيف التي تطال الفقراء في خبزهم اليومي. إعلان شبه أسبوعي عن رفع سعر ربطة الخبز، يليه نفي من قبل أصحاب الأفران بأن السعر لم يتغير، لكن وزن ربطة الخبز سيقل خمسين غراماً أو مئة غرام، في محاولة لاستغباء المواطن والالتفاف على نقمته وامتصاصها، والحجة نفسها، وربما كانت في محلها، وهي ارتفاع أسعار المواد الأولية اللازمة من وقود وخمائر وزيوت وسكر وغير ذلك.
المسار الحكومي المتعثر
في خضم كل هذه الأزمات، التعثر في تأليف الحكومة سيد الموقف. اتهامات متبادلة بالعرقلة بين مختلف الأطراف، تنعكس مزيداً من التوتر في الشارع، ومزيداً من الانهيار في ظل غياب سلطة تتولى المسؤولية وتنقذ البقية الباقية من فتات المؤسسات.
وفي آخر ما رشح من أخبار حول مجريات التأليف، هو رفض الرئيس المكلف سعد الحريري مبادرة رئيس الجمهورية ميشال عون بالتخلي عن الثلث المعطل، فكيف يفعل ويسهّل التأليف والسعودية غير راضية بعد؟ اللواء عباس إبراهيم تبلّغ من رئيس الجمهورية أنه سيكتفي بتسمية خمسة وزراء في حكومة من ثمانية عشر وزيراً، ساحباً صاعق التفجير السابق وهو الاحتفاظ بالثلث المعطل، مع التمسك بحقيبة الداخلية، ولم يصدر اعتراض من قبل النائب جبران باسيل، رأس حربة الخلاف مع الرئيس الحريري، فيما أكد نيته عدم منح الحكومة المقبلة الثقة، لكن ما فاجأ الأوساط السياسية، كان رفض الرئيس الحريري لما كان أصرّ على طلبه بنفسه.
بكل وضوح، نُقل عن الحريري عدم رغبته بالسير في تأليف الحكومة من دون رضا السعودية، التي بدورها لن ترضى بحكومة يرأسها الحريري وتضم ممثلين عن «حزب الله»، قبل أن يزور الرئيس المكلف، الرياض ويقدم لها فروض الطاعة والولاء.
وتعليقاً على هذه التسريبات أصدر المكتب الإعلامي للحريري، بياناً أكد فيه أنه لا ينتظر رضا أي طرف خارجي لتأليف الحكومة، رامياً الكرة في ملعب رئاسة الجمهورية بالإشارة إلى أنه «ينتظر موافقة الرئيس ميشال عون على التشكيلة». ولفت البيان إلى أن الحريري لم يتلقَّ أي كلام رسمي من الرئيس عون في هذا الصدد، وأن هذا الأمر يوحي بأن من يقف خلف تسريبات مثل هذه إنما يهدف فقط إلى «نقل مسؤولية التعطيل من عون وباسيل إلى الحريري»، مضيفاً أن «حزب الله» هو «من بين الأطراف المشاركين في محاولة إلقاء المسؤولية على الحريري».
خاتمة
جهنم التي أنذر بها اللبنانيون، ها هم اليوم يتلمّسون نارها، بل باتوا في وسط أتونها، يعيشون ذروة الانهيار، وقد دخلوا نفقاً أسود لا تبدو له نهاية في الأفق.
كل ذلك، لم يدفع المسؤولين إلى تنازل ولو قليلاً عن مبدأ المحاصصة الذي أغرق البلاد وأنهك العباد منذ عقود. وبحسب ما يبدو، فإن التوافق بين السياسيين غير وارد في المرحلة الحالية، بينما يتخذ بعضهم من الشارع عصا يهدد بها البعض الآخر كلما ضاقت به السبل السياسية للضغط على خصومه.
لكن الأنكى أنهم –ورغم كل آلامهم ووقوفهم على حافة الجوع– يصرّ اللبنانيون على الهتاف بأسماء زعمائهم متناسين أن هؤلاء هم سبب كل مصائبهم.
لعله قد بلغ بهم اليأس مرحلة اللاعودة، فطوّعهم واستسلموا له، حتى باتوا كمن يحفر قبره بيده.
Leave a Reply