محمد العزير
أمّا وقد خَفُت صوت الصراخ، وجفّت أقبية البيوت من بعد «الطوفان» وازالت البلدية معظم العفش والأدوات المنزلية التالفة عن الأرصفة، واستعاد أهل ديربورن وديربورن هايتس، خصوصاً العرب الأميركيون منهم، بعض روعهم وهدأت النفوس، أصبح من الممكن النظر ما ألّم بالمدينتين من غضب الطبيعة بروية ومحاولة الاستفادة من دروس السيول وتسربها إلى البيوت، بدل الاكتفاء بالشكوى والتذمر، بصرف النظر عن الانتهازية ومحاولات التربح والتسلق ولو على حساب المتضررين. وباعتبار أن للجوانب الإدارية والمادية والتطوعية المتعلقة بالواقعة الطبيعية من اهتم ويهتم بها ويتابعها، يبقى الجانب السياسي المهم عشية انتخابات محلية هامة الخريف المقبل.
في إطار المتابعة المهنية التي تقوم بها هذه الصحيفة «صدى الوطن» نشر الزميل حسن عبّاس في العدد السابق حواراً غير مباشر مع قسم الهندسة في بلدية ديربورن حول سبب عدم قدرة البنى التحتية في شرق ديربورن على تصريف مياه الامطار، وليس من المبالغة أو المديح القول أن ذلك كان أفضل ما كتب عن الموضوع شكلاً ومضموناً، ويمكن أن يكون مقدمة لدرس ميداني في السياسة، خصوصاً لمن لا زالوا ينظرون إلى المناصب العامة بعين التشريف لا التكليف ويضعونها في خانة الزعامة والشهرة لا الخدمة ولا التمكين.
من حيث الشكل قدم الزميل عبّاس أسئلته الخطية إلى قسم الهندسة عبر مديرة المعلومات في البلدية ماري لاندروش التي حولتها إلى القسم المختص وحصلت على الأجوبة خلال أيام قليلة. هذا يعني أن التواصل مع أي قسم أو مكتب في البلدية أو أية حكومة محلية لا يتطلب بالضرورة معرفة شخصية بالمسؤولين المعنيين بل يتم عبر الأساليب المتاحة قانونياً للناس والجمعيات والصحافة عبر تشريعات وأنظمة تضمن حق المواطن في الحصول على أية معلومات رسمية تعنيه في حياته ومعاشه وتكليفه الضريبي.
الملاحظة الثانية هي أن إعداد الأسئلة بشكل وافٍ ومفصل، وهذا يتطلب جهداً بحثياً، يجبر المسؤولين على الإجابة المفصلة ولا يسمح لهم بالتملص الدبلوماسي من الرد واعتماد التعميم أو الإبهام لتضييع المسؤولية.
والملاحظة الثالثة هي أن هذا النوع من المتابعة يضع القضية، أية قضية، في نصابها الصحيح فلا يتحول العمل العام إلى حفلات ردح ولا تجنح المحاسبة إلى شخصنة الأمور.
يتضح من رد قسم الهندسة على الأسئلة أن منطقة شرق ديربورن ذات الكثافة السكانية العربية الأميركية تفتقر إلى بنى تحتية حديثة مقارنة بالجزء الغربي للمدينة، وأن البنى الموجودة حالياً تم إنشاؤها قبل أكثر من نصف قرن.
الذي يعرف تاريخ ديربورن، يعرف أن القسم الأكبر من الحي الشرقي فيها كان حتى الخمسينيات مطاراً لشركة «فورد» للسيارات، فيما كانت منطقة «ديكس» مصممة على قياس عمال مصنع «الروج» التابع للشركة نفسها وملحقاته التخزينية والاستيعابية. في الحالتين لم تكن المنطقتان تاريخياً بحاجة إلى بنى تحتية ضخمة تتحمل الكثافة السكانية الحالية، فيما كان الحي الغربي من المدينة مصنفاً للسكن ويتمتع بالبنى التحتية المناسبة.
تؤكد أجوبة قسم الهندسة هذه الحقيقة من خلال الاعتراف بأن آخر استثمارات كبيرة في شبكات الصرف الصحي وصرف مياه الأمطار وشبكة مياه الشفة كانت في ستينيات القرن الماضي، أي قبل عقود من الانتشار السكاني الهائل للعرب الأميركيين الذين أحيوا شرق ديربورن وحولوها من منطقة شبه مهجورة في الثمانينيات إلى المنطقة الأكثر كثافة سكانياً والأكثر عدداً وتنوعاً في الاستثمارات التجارية وخصوصاً المحلات والمطاعم والشركات الصغيرة والمكاتب التخصصية.
الأمر الآخر هو أن الاستثمارات الجديدة تنتظر الهبات الفدرالية ولا تلحظ موازنة البلدية أية مشاريع تأسيسية بل تكتفي بالترقيع والصيانة وغالباً ما تلعب السياسة المحلية دوراً كبيراً في خلق توازن بين شطري المدينة فلا تكون الموازنات حسب الحاجة وإنما بالتساوي. هذا الأمر لا يقتصر على البنى التحتية فقط بل يطال أيضاً المدارس العامة التي تبدو وكأنها تابعة لمجلسين تربويين منفصلين عندما يتم النظر إلى مبانيها وصيانتها ومكننتها وقدراتها الفنية.
تنطوي أجوبة قسم الهندسة حول سبب عدم وجود نفق رئيسي لتصريف مياه الأمطار في شرق ديربورن أسوة بغربها على نوع من التهويل وتشير إلى أن الأمر سيتطلب إقفال وتدمير الشوارع في الرقعة الممتدة بين شارعي تشايس وميلر وبين ميشيغن أفنيو وورن، تفوق هذه المساحة نصف شرق ديربورن، لكن هذا جواب حمّال أوجه؛ ففي زمن التقنيات العالية والتقدم الهائل في آلات الحفر لا ضرورة نظرياً على الأقل إلى كل هذا التدمير والإقفال لحفر قناة جوفية توصل مياه الأمطار إلى نهر الروج، لكن الأهم أن الجواب التهويلي لم يكن رداً على مشروع بل رد على سؤال.
هنا ننتقل من مقدمة الدرس إلى متنه. نحن الآن في موسم انتخابات محلية، المرشحون العرب فيها كثر خصوصاً لمناصب رئيس وأعضاء مجلس بلدية ديربورن. كشفت السيول الأخيرة الحاجة إلى إنشاء بنى تحتية (ليس تحديثها فقط) كما كشفت الخلل الواضح بين شطري المدينة. واذا لم نحتسب شركة «فورد» العملاقة في المعادلة الضريبية يتضح أن نسبة الضرائب من شرق ديربورن تفوق غرب المدينة بضعفين على الأقل (ضرائب العقارات والمحلات والمبيعات والآلات)، فهل نتوقع من المرشحين أن يضيفوا إلى حملاتهم الانتخابية أفكارهم ومشاريعهم للبنى التحتية، وهل تجلب الأدبيات الانتخابية لغة جديدة عن الإنماء والتكليف الضريبي والأداء الإداري للبلدية بكل إقسامها لتحل مكان إدبيات ولاءات الوطن الأم أو افتعال قضايا هامشية للتفريق المذهبي والإقليمي والمناطقي وحتى القروي لحشد المؤيدين.
على أمل العمل بمقولة رب ضارة نافعة، لنا أن نتمنى أن يكون ما أصاب المدينة من ضرر في الممتلكات بداية لانعطافة إيجابية في الشأن العام تجعل من القضايا الحيوية منطلقاً للعمل السياسي، بدل الشخصانية والنرجسية والنكايات.
Leave a Reply